هل تنجح بيروت عبر إعلاء صوت «خيار التفاوض» في احتواء موجات التصعيد الإسرائيلي العاتية التي تتراكم مؤشراتُها على طريقة «الحرب أوّلها كلام»؟ أم أن معادلةَ «الجميع يعرف ما يضمره الجميع»، سواء من نياتٍ مبيّتةٍ لتل أبيب بتسديد ضربة تُفْضي إلى ضمورٍ كبير و«أخير» في وضعية «حزب الله» العسكرية أو من عجزٍ لبناني عن «التحكم والسيطرة» على ملف السلاح، تشي بأن ما «كُتب قد يكون كُتب» على صعيد رجحان كفة الحاجةِ إلى «كيّ بالنار» يَسبق طيّ جبهة لبنان… لمرة واحدة ونهائية؟
هذا السؤال فَرَضَ نفسه بقوةٍ، مع استمرارِ «البناء» الإعلامي والأمني والسياسي والإسرائيلي لسرديةِ «التعافي وإعادة التسلّح» لـ «حزب الله» بوصفها حيثياتٍ لضرباتٍ لم تَعُدْ «المحاكاةُ» لها توفّر العاصمة اللبنانية كجزءٍ من «بنك الأهداف» في حال «استمرّ الحزبُ في تعزيز قدراته العسكرية» كما هدّدت هيئة البث الإسرائيلية، متحدثة عن «عجز» الحكومة اللبنانية في مواجهة تنامي قوة المنظمة الإرهابية ما يتطلب الردّ على الانتهاكات «التي زعمت تل أبيب أنها تشتمل على» إعادة تأهيل الحزب بنيته التحتية، لا سيما في المنطقة التي يسيطر عليها شمال الليطاني، وكذلك في منطقة بيروت، وذلك لتصعيب هجوم إسرائيلي.
«التحوّل الإستراتيجي»
وفي الوقت الذي كان مركز «ألما» للبحوث والدراسات الإسرائيلي يتوغّل في تَظهير عمقَ المَخاطر «المتجدّدة» على جبهة الشمال من خلال تقريرٍ مفصّلٍ حول «التحوّل الإستراتيجي» للحزب على صعيد مفهوم«بناء القوة»وانتقاله من التهريب (من إيران وعبر ممرات برية وبحرية وجوية) إلى التصنيع داخل لبنان في ضوء متغيرات سقوط نظام الأسد في سوريا وارتداداته متعددة الاتجاه، فإنّ لبنان الرسمي بدا مرتبكاً في ضوء مسألتين:
– الأولى تَهَيُّبه اللحظةِ المفصلية التي تستنبط رغبةً في جرّ بيروت إلى تَفاوُضٍ مباشر وذات طابع سياسي أو دبلوماسي تدعمه واشنطن ويُخشى أن يكون أي توسيعٍ للضربات أو تجديدٍ للحرب الشاملة من مقدّماته بعد أن يتمّ إضعافُ «حزب الله» وإعادته بالحدّ الأدنى إلى الحجم الذي بَلَغه عشية اتفاق وقف النار في 27 نوفمبر والذي شكّل «الميزانَ» لصوغ مندرجات الاتفاق والتي تتمحور في جوهرها حول سحب سلاحه من جنوب الليطاني وشماله.
واستوقف أوساطاً سياسية في هذا الإطار دعوة زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد إلى «ضرورة شن عملية عسكرية قوية ضد حزب الله»، بالتزامن مع إعلان رئيس الأركان إيال زامير أن الحرب لم تنته ويجب خوضها مجدداً لتكريس الاستقرار على كل الجبهات، ما كرّس أن موضوع الحزب هو نقطة تقاطُع عابرة لكل الاستقطاب السياسي في تل أبيب.
وفي السياق، استهدفت مسيّرة إسرائيليّة سيارة في بلدة كفردجال – النبطية، حيث أفيد عن سقوط ضحية.
– والثانية اضطرار لبنان لأخْذ موقع «دفاعي» بوجه الدفع الخشن من إسرائيل لمركب التصعيد «المركّب»، في الميدان وعلى المنابر، وسط توقُّف الأوساط السياسية عند ما نقلته قناة «الجديد» عن مصادر حكومية نقلاً عن كلام الموفد الأميركي توماس براك من«ان لبنان في حالة حرب لكن التصعيد لن يتوسع بشكل كبير رغم القلق من استهداف نقاط حول العاصمة».
ولم يَعُد خافياً أن «خط الدفاع» الأول للبنان الرسمي بات يشكّله عنوان التفاوض مع إسرائيل الذي يحاول الموازنة فيه بين ارتياب حزب الله منه، كونه يُخْرِج سلاحه من دائرة«اللبْننة»التي يصرّ عليها ويضعه «تحت مطرقة» واشنطن «وجدولها الزمني» الصارم بالدرجة الأولى، وبين عدم إمكان إدارة الظهر لهذا المسار الذي تفرضه أولاً المتغيراتُ الجيو – سياسية المتلاحقة في المنطقة وآخِر فصولها«سلام غزة»، وإن مازال في بداياته، كما «كماشة» الضغوط العسكرية والدبلوماسية.
وفي الوقت الذي لم يتوانَ «حزب الله» عبر قناة «المنار» (مقدمة نشرتها مساء الاثنين) في توجيه انتقاد «مُموَّه» لكلام الرئيس جوزف عون عن أن «لا خيار أمام لبنان إلا التفاوض» الذي تطرحه بيروت غير مباشر وعبر لجنة «المكيانيزم» الخماسية التي تتولى الإشراف على تنفيذ اتفاق 27 نوفمبر مع وموافقة على تطعيمها بمدنيين تقنيين، كرّر عون اليوم الثلاثاء «أن التفاوض الذي دعا إليه لانهاء الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب وتداعياته هو خيار وطني لبناني جامع، لكن إسرائيل لم تحدد موقفها بعد وتستمر في اعتداءاتها».
أبراج مراقبة
وإذ جاء كلام عون خلال استقباله مساعد وزير الخارجية البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هاميش فاكونر، فإنّ هذا اللقاء حَمَلَ انكشاف تطور غير مسبوق عَكَسَ استشعار لبنان بحراجة المرحلةِ من جهة وايضاً جديةً من بيروت في إظهارِ التزامها بجعل منطقة جنوب الليطاني بدايةً، منطقة منزوعة السلاح، وتمثّل في الكشف عن بدء تنفيذ بريطانيا «مشروع إقامة أبراج المراقبة على الحدود اللبنانية الجنوبية»استكمالاً للأبراج على الحدود مع سوريا التي أقيمت قبل نحو عقد وباتت في عهدة وتحت سيطرة الجيش اللبناني.
وبحسب البيان الذي وزّعه مكتب الإعلام في الرئاسة اللبنانية، فإنّ عون بحث مع فالكونر «الأوضاع العامة في لبنان عموماً وفي الجنوب خصوصاً في ضوء الزيارة التي قام بها إلى الجنوب حيث عاين المواقع التي انتشر الجيش اللبناني فيها والقوات الدولية، ومشروع إقامة أبراج المراقبة على الحدود اللبنانية الجنوبية الذي تنفذه بريطانيا».
وشكر عون «بريطانيا على الدعم الذي قدمته للبنان في مختلف المجالات لاسيما في مجال بناء الأبراج على الحدود الشرقية والشمالية، والشروع حالياً في بناء أبراج مماثلة على الحدود الجنوبية»، مؤكداً«أن الجيش يقوم بدوره كاملاً منذ انتشاره في جنوب الليطاني على أثر الاتفاق الذي تم التوصل إليه في نوفمبر 2024»، ولافتاً الى «ان هذا الانتشار لم يستكمل بسبب استمرار احتلال إسرائيل لأراضي لبنان وعدم التزامها مندرجات الاتفاق، إضافة إلى عدم احترامها قرار مجلس الأمن 1701».
وكان موضوع الأبراج البريطانية وُضع في التداول بعيد اتفاق وقف النار وحتى خلال المفاوضات لإبرامه، وصولاً لعرضه على لبنان إبان زيارة وزير الخارجية ديفيد لامي لبيروت قبل نحو أربعة أشهر، وفي كل هذه المراحل عبّر الحزب عن تحفظاتٍ تستند لاعتباراتٍ عدة بينها تأكيد انتهاء دوره جنوب الليطاني مع ما يعنيه ذلك من إضعاف «سردية» بقاء سلاحه شمال النهر، وصولاً لأسئلة تقنية حول الكاميرات المثبتة على الأبراج ووُجهتها (لبنان أو إسرائيل أو كلاهما)، رغم اعتبار الأوساط السياسية أن اعتماد نموذج«أبراج سوريا»لجهة تسليمها إلى الجيش اللبناني يبدّد الالتباسات.
طائرات الاستطلاع
وفي حين حملت زيارة فالكونر إشارة لافتة عبّر عنها خلال لقائه وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي حيث وصف المرحلة الممتدة حتى نهاية العام«بالدقيقة»، مؤكداً «رفض بلاده استمرار الاعتداءات الإسرائيلية» ومعتبراً أن «هناك فرصة حقيقية أمام لبنان للانتقال إلى الاستقرار»، ومثنياً على عمل الجيش ومشدداً على«أهمية إظهار ما يقوم به لبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها»، برزت تقارير عن أن الأيام الثلاثة الماضية شهدت «زيادة ملحوظة في نشاط طائرات الاستطلاع غير المأهولة الأميركية من طراز MQ-4C Triton فوق سواحل لبنان وغزة، في خطوة قد تستهدف جمع معلومات قبل تصعيد محتمل في المنطقة».
ووفق موقع «إرم نيوز»، فقد رصدت مواقع متخصصة بتتبع حركة الملاحة الجوية، ومنها موقع فلايت رادار، أنه جرى تسجيل أكثر من 15 مهمة نفذتها طائرات MQ-4C Triton في المنطقة، مع تركيزها في الغالب على المناطق الواقعة ضمن لبنان وقطاع غزة، وأن النشاط المسجل لطائرات الاستطلاع الأميركية فوق السواحل اللبنانية وقطاع غزة مع بداية نوفمبر سجل زيادة نسبتها 30 في المئة مقارنة مع نشاطها المسجّل طوال الربع الثالث من عام 2025.
يُذكر أن هذه الطائرات كانت كثّفت من «تمشيطها» أجواء لبنان وسوريا قبيل وخلال بدء إسرائيل «حرب لبنان الثالثة» وما سبقها وتخلّلها من اغتيالات أبرزها للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
مؤتمر إعادة الإعمار
وفي موازاة ذلك، التأم «اللقاء التنسيقي الأول نحو إعادة الإعمار» في مجمّع الرئيس نبيه بري في المصيلح بمشاركة جميع الأطراف المعنية من مؤسسات الدولة، والمؤسسات الدولية والخبراء وعدد من الوزراء وذلك في سياق «الجهود الوطنية الهادفة لإعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية في لبنان» وتأكيد أولوية هذا العنوان الذي تحاول إسرائيل«دفن إمكاناته» تحت أنقاض الغارات التدميرية للبنية التحتية للإعمار وفي إطار رسالة بالنار إلى أن لا إعادة بناء قبل نزع سلاح «حزب الله».
وعلى وقع هذا اللقاء، أكد بري «أن المقاومة التزمت كاملاً بما نص عليه اتفاق وقف النار وأن الجيش اللبناني انتشر في منطقة جنوب الليطاني بأكثر من 9000 عنصر وضابط، وهو قادر للانتشار على الحدود المعترف بها دوليا، لكن ما يعوق ذلك هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية الجنوبية وذلك باعتراف اليونيفيل وتقاريرها الدورية».
وقال خلال لقائه في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة وفدا من اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية: «لسؤال الذي يجب أن يسأل متى وأين وكيف التزمت إسرائيل ببند واحد من بنود اتفاق وقف إطلاق النار»، كاشفاً «أن الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس في زيارتها الأخيرة ناقشت أمرين: الأول موضوع الادعاء الإسرائيلي باستمرار تدفق السلاح من سوريا والثاني موضوع المفاوضات»، وأكد في هذين العنوانين «أن ما تزعمه إسرائيل في شأن السلاح من سوريا هو محض كذب فأميركا التي تسيطر على الأجواء بأقمارها الصناعية وغيرها تعرف ذلك».
وتابع بري «هناك آلية تسمى الميكانيزم التي تجتمع ويجب أن تجتمع بشكل دوري ويمكن الاستعانة بأصحاب الاختصاصات من مدنيين أو عسكريين إذا ما استدعى الأمر ذلك على غرار ما حصل في ترسيم الخط الأزرق أو الحدود البحرية».
وإذ علّق على ما يحكى عن «التطبيع» قائلاً «أثق بأن اللبنانيين سيقولون لا للتطبيع»، شدد في ما خص إعادة الإعمار وصمود الجنوبيين على «أن أهم معركة وأهم حرب يخوضها اللبنانيون وخاصة أبناء الجنوب هي معركة الصمود والبقاء في الأرض».
«استعدادات ميدانية للحرب وأول الغيث منتجع للإعلاميين في رميش
أوردت «وكالة الأنباء المركزية» اللبنانية تقارير عن استعدادات ميدانية للحرب وعن «حجز فرق إعلامية من قنوات عربية ومحلية غرفاً في أحد المنتجعات في بلدة رميش الحدودية جنوباً وهو الذي اعتمده الصحافيون كمركز للتغطية خلال حرب الإسناد».
ونقلت الوكالة عن مصادر مطلعة في رميش أن «الخبر مؤكد» وأن الحجز تم في منتجع «ماونتن غيت» الذي كانت تتواجد فيه وسائل إعلام عربية ومحلية خلال حرب الإسناد، وأن «الخيار وقع عليه نظراً إلى موقعه المشرف على بلدات وقرى حدودية كانت تتعرض للقصف الإسرائيلي المباشر ومنها بلدة عيتا الشعب ويارون وبنت جبيل.
لكن وظيفة الإعلاميين فيه كانت تقتصر على مسائل تقنية وتحريرية إذ لم يكن باستطاعتهم الخروج منه بسبب كثافة النيران والقصف أما مصادر الخبر فكانت تصلهم من خلال المراسلين الموجودين على الأرض».
لبنان يحاول احتواء «العاصفة» بـ «النيات التفاوضية» .




