تراجَع لبنان خطوة كبيرة إلى الوراء بدعوته إلى التفاوض في لحظة استباحة إسرائيليّة كاملة للبنان، ليس لمبدأ التفاوض الذي سبق للبنان أن خاض غماره مع الكيان الإسرائيليّ، أو لكونه خياراً حتميّاً مع العدوّ “حين لا تؤدّي الحرب إلى نتيجة”، كما قال رئيس الجمهوريّة، بل لأنّ لبنان قَبِل بعودة الأمور إلى نقطة الصفر.
كلّ الأهداف التي يسعى لبنان إلى تحقيقها، لاحقاً، في تفاوضه غير المباشر، كما يُفترض، مع إسرائيل قد وردت حرفيّاً في قائمة “الأهداف” في اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة الموقّع قبل نحو أقلّ من عام، وهذه أهمّ بنودها:
– ضمان استدامة وقف الأعمال العدائيّة، بما في ذلك منع جميع الانتهاكات البرّيّة والجوّيّة والبحريّة، من خلال خطوات منظّمة تؤدّي إلى حلّ دائم وشامل ومضمون.
– إنهاء الوجود المسلّح لجميع الجهات غير التابعة للدولة بشكل تدريجي، بما في ذلك “الحزب”، في جميع الأرجاء اللبنانية، شمال وجنوب نهر الليطاني، وتقديم الدعم اللازم للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي.
– انسحاب إسرائيل من “النقاط الخمس” وإيجاد حلّ لقضايا الحدود والأسرى عبر مفاوضات غير مباشرة.
– عودة المدنيين من القرى والبلدات الحدوديّة إلى منازلهم وممتلكاتهم.
– ضمان انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية ووقف جميع الأعمال العدائية.
– الترسيم المرئي والدائم للحدود الدوليّة بين لبنان وإسرائيل.
– عقد مؤتمر اقتصادي تشارك فيه الولايات المتّحدة وفرنسا والمملكة العربية السعوديّة وقطر وأطراف صديقة أخرى للبنان، دعماً لإعادة إعمار الاقتصاد اللبناني.
خلال مدّة 120 يوماً، نصّ عليها الاتّفاق، كان يجب إتمام جميع مراحل التحقّق من نزع السلاح، والانسحاب الإسرائيليّ الشامل والنهائيّ من لبنان، بما في ذلك “تولّي الجيش اللبناني، باستخدام أدوات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، مهامّ الرصد الجوّي بعد توقّف الانتهاكات الجوّية الإسرائيليّة”.
انتهى الأمر فعليّاً بعد نحو عام من الاتّفاق، برعاية أميركيّة، إلى جعل ما نسبته نحو 85% من منطقة جنوب الليطاني، بتقديرات الجيش اللبناني الرسميّة، منزوعة السلاح “لا يغطّ فيها طائر من دون إذن أو معرفة “الميكانيزم” والجيش اللبناني”، في مقابل استباحة إسرائيليّة كاملة تمثّلت في تنفيذ أكثر من 2,800 خرق جوّيّ، وأكثر من 2140 خرقاً برّيّاً، وأكثر من 160 خرقاً بحريّاً، وأكثر من 375 اغتيالاً، ونحو 800 غارة استهدفت منازل وأبنية ومنشآت، ومواقع قالت إسرائيل إنّها تابعة لـ”الحزب”.
انتهى الأمر أيضاً إلى الإيعاز إلى الجيش اللبناني بالتصدّي، لأيّ توغّل برّيّ في الأراضي المحرّرة، فيما كلّ الخروقات الأخرى إمّا تُحلّ بالتفاوض الوشيك، أو بالتمسّك بـ”المقاومة الدبلوماسيّة”. بالمقابل، أعلن “الحزب” رفضه المطلق النقاش معه في سلاحه شمال الليطاني، متّكئاً على “انتهاك إسرائيل الكامل للاتّفاق”.
هكذا استسلم لبنان الرسمي، بعد أشهر من “المقاومة الدبلوماسيّة”، لفكرة أنّ اتّفاق رعاية الحلّ الشامل في لبنان لم يُثمر سوى رصيد من الانتهاكات الإسرائيليّة الهائلة، ليس فقط للاتّفاق، بل لكلّ المواثيق الدوليّة، بما في ذلك تصفية مدنيّين أبرياء. أكثر من ذلك، الاستماع الرسميّ إلى جولات توبيخ من وسطاء أميركيّين، لا مثيل لها في العلاقات الدوليّة، بحقّ رؤساء ودولة، في ظلّ صمت رسميّ.
ثمّ أتى “الخرق” اللبنانيّ لهذا الستاتيكو، عبر الدعوة الرئاسيّة الثلاثيّة إلى التفاوض، مجدّداً من النقطة الصفر، وعلى بنود فصّلها اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة، وصولاً إلى “تقديم الدول الصديقة والداعمة الدعم الفنّي واللوجستيّ لسلاح الجوّ اللبناني، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعيّة المتضرّرة، وتعويض الخسائر في المحاصيل بدعم دولي”.
بالواقع، ما يُمكن أن يُنفّذ فعليّاً من اتّفاق وقف الأعمال العدائية هو ما وَرد تحت عنوان: “عواقب الإخلال بالاتّفاق”، الذي ينصّ على أنّه في “حال خرق لبنان للاتّفاق يُصار إلى تجميد مشروط للمساعدات العسكريّة، وفرض عقوبات اقتصاديّة”، وهذا ما تضجّ به حاليّاً كواليس القرار الدوليّة: “لا مساعدات، وتلويح بعقوبات، وعدوان إسرائيليّ وشيك”.
مصير التّفاوض
في الوقت الراهن، جولة “انتظارات” متبادلة للمُبادر الأوّل إلى جعل التفاوض أمراً واقعاً. المصريّون ينتظرون ردّ لبنان على مبادرة القاهرة، ولبنان ينتظر الأميركيّ، والأميركيّ ينتظر الردّ الإسرائيليّ، والإسرائيليّ ينتظر التوقيت المناسب لـ”يَهجم، أو يصعّد بقوّة، أو يفاوض تحت زنّار نار…”.
لا معطيات حاسمة حتّى الآن حيال مصير التفاوض، لكنّ المؤكّد ما تكشفه معطيات “أساس” من أنّ جهات رئاسيّة وعسكريّة سمعت كلاماً أميركيّاً واضحاً مفاده: “إذا اتّفق الإسرائيليّ مع رئيسَي الجمهوريّة والحكومة وسمير جعجع وكلّ الأحزاب، ولم يتّفق مع الشيعة فلا قيمة لهذا الأمر. إذا كنّا نتكلّم في موضوع السلام، فنحن لا نريد سلاماً مع لبنان يُشبه السلام مع مصر والأردن، الذي لا يستفيد منه الإسرائيليّ. وما قيمة اتّفاق يُعقد في ظلّ سلطة سياسيّة معيّنة، ثمّ تأتي سلطة لاحقة وتطيح به”.
يَعكس هذا الكلام الأميركيّ الواضح الغاية الإسرائيليّة في الوقت الحالي من أيّ تفاوض تقنيّ-سياسيّ محتمل، وأهدافه البعيدة المدى.
لذلك تشير أوساط سياسيّة إلى الضغط الأميركيّ كي يحصل التفاوض المباشر، برعاية أميركيّة، بموافقة شيعيّة يمثّلها راهناً الرئيس نبيه برّي، كي يكون قاعدة لمحادثات السلام أو الاتّفاقات الأمنيّة الدائمة في المنطقة، بعد نزع السلاح.
وفق المعلومات، لن تقبل إسرائيل بالانسحاب ووقف اعتداءاتها قبل بدء التفاوض، سواء عبر “الميكانيزم” أو أيّ آليّة أخرى، فيما يجهد لبنان الرسميّ حاليّاً لتوفير غطاء “مُشرّف” لبدء التفاوض قد يكون أقلّه وقف الاغتيالات اليوميّة وحركة المسيّرات في الأجواء اللبنانيّة، وذلك بعد الموافقة على “تطعيم” لجنة “الميكانيزم” بحضور مدنيّ تقنيّ، وليس دبلوماسيّاً أو سياسيّاً.
لبنان: إلى التّفاوض بعد انهيار “اتّفاق تشرين” .




