التفاوض آتٍ حتماً، لكن كيف وبأيّ ثمن؟ قد تختصر هذه المعادلة واقع مرحلة ما قبل جلوس الإسرائيلي واللبناني وجهاً لوجه، تماماً كما هو حاصل اليوم في اجتماعات “الميكانيزم”، بحضور الأميركيّ والفرنسيّ و”اليونيفيل”، لكن هذه المرّة بوساطة مختلفة شكلاً، ومضمون يتجاوز مقتضيات التفاوض في الحرب، نحو عقد اتّفاقات أمنيّة “ثابتة” تريدها إسرائيل، بعد التخلّص من سلاح “الحزب”.
بالتزامن مع عرض الجيش اللبناني أمام الحكومة تقريره الثاني عن تنفيذ خطّته لحصريّة السلاح، تقدّم العدوّ الإسرائيليّ أشواطاً في إفهام حكومة نوّاف سلام كونه شريكاً مضارباً بقوّة للجيش في تنفيذ هذه الخطّة، على طريقته.
ليس تفصيلاً هامشيّاً أن يكون جنوب الليطاني، تحديداً، مسرحاً لإحدى أكبر وأوسع الضربات الإسرائيليّة الصاروخيّة، منذ توقيع اتفّاق وقف إطلاق النار، لِما يقول العدوّ إنّها بنى تحتيّة عسكريّة لـ”الحزب”، وبعضها جاوَرَ مراكز عسكريّة للجيش اللبنانيّ، كما حصل في كفردونين بالقرب من ثكنة الشهيد محمد فرحات التي شارك قائد الجيش قبل أسابيع في افتتاحها.
الإسرائيليّ مقتنع بأنّ الجيش اللبناني لا يقوم، وفق مفهومه، بالمجهود المطلوب لجعل جنوب الليطاني منطقة Clean من خطر السلاح، وخطر “مالكيه”. والأميركيّ يُكرّر هذا الأمر على مسامع اللبنانيّين، وأحد نماذجه ما ذُكر حرفيّاً في بيان القيادة الأميركيّة المركزيّة، نقلاً عن المستشارة مورغان أورتاغوس خلال مشاركتها في اجتماع “الميكانيزم” الأخير. تشير المعطيات إلى أنّ الجيش اللبناني رفض مراراً طلبات لـ “الميكانيزم” دخول منازل معيّنة، أو منشآت مدنيّة لجنوبيّين، أصحابها داخلها، ورفض التجاوب لاعتبارات سياديّة وعسكريّة خاصّة به.
ادّعاءات إسرائيليّة ونفي لبنانيّ
أمس، للمرّة الأولى منذ بدء تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النار، ذكرت وسائل إعلام إسرائيليّة (يديعوت أحرونوت) أنّ الاستخبارات الإسرائيليّة رصدت نقل أسلحة وتدريبات ميدانيّة جديدة لـ”الحزب”، بعضها يتمّ بالتعاون مع الجيش اللبناني. هذا أمر تنفيه جهات عسكريّة لبنانيّة تماماً، متحدّثة بالمقابل عن تعاون كامل لـ”الحزب” مع الجيش جنوب الليطاني في تسليم سلاحه.
من جهته، بات يُسلّم الجانب اللبنانيّ بأنّ التفاوض الذي يريده لبنان تريده إسرائيل، لكن بشروطها القاسية، وبتوقيتها الخاصّ، وبمناخات ضغط تمهيديّة يعكسها توسيع رقعة الاستهدافات والاغتيالات وتجدّد لغة الإنذارات والتضييق على الجيش جنوب الليطاني وحركة المسيّرات التي باتت أصواتها وحركتها التي لا تهدأ شريكةَ غرف نوم كبار المسؤولين اللبنانيّين.
لم تأتِ من عدم وليست جديدةً التسريباتُ التي تحدّثت عن طلب قائد الجيش العماد رودولف هيكل خلال عرض التقرير العسكريّ الثاني وقف تنفيذ الخطّة اعتراضاً على الانتهاكات الإسرائيليّة الفاضحة للاتّفاق.
موقف الجيش صريح بأنّ هناك استحالة لتطبيق المرحلة الأولى من الخطّة (جنوب الليطاني بحلول نهاية العام) في ظلّ حالة الاحتلال، والانتهاكات التي تلامس مراكز الجيش و”اليونيفيل”.
أكثر من ذلك، في أيلول الماضي، بعد نحو أسبوعين من عرض الجيش خطّة حصريّة السلاح أمام مجلس الوزراء، وترحيب الحكومة ولجنة “الميكانيزم” بها، أصدرت قيادة الجيش بياناً استثنائيّاً، أعقب موجة من الغارات الإسرائيليّة، أعلنت فيه بشكل مباشر احتمال تجميد تنفيذ الخطّة، مؤكّدة أنّ “استمرار الاعتداءات والخروقات التي فاقت 4,500 سيعرقل تنفيذ الخطّة بدءاً من جنوب الليطاني”. راهناً، ستلامس الخروقات قريباً عتبة ستّة آلاف، وقد تتوسّع لتطال الضاحية الجنوبيّة والبقاع (بشكل أوسع).
فعليّاً، منذ ترحيب الحكومة اللبنانيّة بخطّة الجيش فظّعت إسرائيل في انتهاكاتها، بما في ذلك جولة ميدانيّة للمتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ أفيخاي أدرعي على الحدود مع لبنان، وتوجيه ضربة قاسية لـ”حماس” خارج الحدود على الأراضي القطريّة.
بالمقابل، كان الجانب الأميركي منقسماً بين فريق عسكريّ يثني بشكل دائم على عمل الجيش، وآخر النماذج تقرير القيادة الأميركيّة المركزيّة، وبين فريق سياسيّ من ضمنه حتّى السفيرة الأميركيّة السابقة ليزا جونسون التي رأت، قبل مغادرتها لبنان، أنّ ما يقوم به الجيش “جبّار، لكنّ الخطوات غير كافية”.
عَكَسَت السفارة الأميركيّة في لبنان أمس، على بعد أيّام قليلة من وصول السفير الأميركيّ الجديد ميشال عيسى، واقع الضغط القائم من خلال تأكيد استخدام واشنطن كلّ الوسائل لمنع “الحزب” من تهديد لبنان والمنطقة.
الـ 85% رقم تقريبيّ
تقرّ مصادر عسكريّة لـ”أساس” بأنّ “لبّ التقريرين الأوّل والثاني، وكلّ التقارير اللاحقة للجيش، يكمن في عرض التقدّم الحاصل جنوب الليطاني “شهراً بشهر” في شأن مهمّة تفكيك المنشآت العسكريّة، وتسلّم السلاح، وهو أمر يحصل في ظلّ ظروف صعبة جدّاً”.
في المقابل، تشير المصادر إلى أنّ “رقم الـ85% الذي صدر عن جهات رسميّة ويعكس حجم سيطرة الجيش على مساحة جنوب الليطاني بالتعاون مع “اليونيفيل”، يبقى رقماً “تقريبيّاً”، إذ لا أحد بالواقع، حتّى الإسرائيليّ والأميركيّ، إضافة إلى الجيش اللبنانيّ، يعلم تماماً الخارطة الدقيقة لتوزّع مخابئ الأسلحة والمواقع العسكريّة جنوب الليطاني، وربّما قلّة قليلة جدّاً في “الحزب” تعرف ذلك” بعد استشهاد القيادات العسكرية.
تلفت المصادر إلى أنّ مهلة نهاية العام لتسليم السلاح غير واقعيّة، “فإضافةً إلى العائق الإسرائيليّ الجدّيّ، بعض المواقع العسكريّة “المشبوهة” هي عبارة عن صندوق مقفل يحتاج بعضها إلى أسابيع وربّما أشهر لإجراء مسح له ودراسته وتفكيكه، وسحب محتوياته بطريقة آمنة، أو حتّى وضع مسار عملانيّ للوصول إلى هذه المواقع بسبب الطبيعة الجبليّة الصعبة في بعض المناطق الجنوبيّة”.
هي تفاصيل لا يبدو الإسرائيليّ معنيّاً بها، فهو يُنفّذ أجندته الخاصّة من دون رادع، فيما الجانب الرسميّ اللبنانيّ “يُفوكِس” على التفاوض سبيلاً إلى ما لم يتمّ الالتزام به إسرائيليّاً في اتّفاق وقف الأعمال العدائية، وعلى رأس ذلك استكمال انتشار الجيش حتّى الحدود الجنوبيّة المعترف بها دوليّاً.
الأمر المستجدّ الطارئ في هذا المشهد هو الموقف العلنيّ الرسميّ لـ”الحزب” برفض مقترح “التفاوض السياسيّ” الذي واكبته أمس حركة اتّصالات على خطّ بعبدا-الضاحية لتوضيح أهدافه الأساسيّة، والذي استدعى أيضاً ردّاً من الرئيس نوّاف سلام بعد ردّ رئيس الجمهوريّة خلال جلسة مجلس الوزراء، ونواته الأساسيّة “وجود تأييد وطنيّ ودوليّ للتفاوض”، بما في ذلك رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.
أهمّ ما في بيان “الحزب” إعادة تأكيده أنّ تسليم السلاح بقعته الوحيدة والحصريّة جنوب الليطاني، و”الحزب” ملزم بتنفيذه وفق بنود الاتّفاق، بما في ذلك “منع حكومة لبنان “الحزب” من تنفيذ أيّ عمليّات عسكريّة ضدّ إسرائيل وعدم قيام الأخيرة بأيّ عمليّات عسكريّة هجوميّة”، وهذا يُشكّل عامل مواجهة ليس مع الأميركيّين والإسرائيليّين فقط، بل الحكومة ورئيس الجمهوريّة الذي وجد في رسالة “الحزب” إلى الرؤساء الثلاثة “محاولة تعطيل لمسار التفاوض الذي يغطّيه حليفه الرئيس برّي”.
كلفة ما قبل التّفاوض: إسرائيل “تصنَع” سَلامَها .




