لا يزال “التخاذل” أدق المصطلحات وصفًا للإدارة اللبنانية مدّعية التجديد، ذلك إذ تجلّى أمس الأربعاء في مشهدية تبادل الرئيسين العزاء في ما بينهما على طاولة العمل الحكومية “حُزنًا” على الشاب إيليو أرنستو أبو حنا. ولربما، لم يكن ليجرؤ أحد، كائنًا من كان، على مواجهة الأم المكسورة المكلومة المفجوعة الحزينة… ولو لتقديم واجب العزاء العلني لها في زيارة خاطفة. من ذا الذي يقوى على مواجهة الشارع الغاضب؟ وسماع ما يُتجنبُ سماعه منذ عقود؟ أسئلة عن السلاح غير الشرعي، وعن الدولة التي تنسّق مع قاتلي مواطنيها. الحضور كان سيعني الاعتراف بمسؤولية سياسية، أو على الأقل أخلاقية، عن مقتل الإبن. وما أحوَجنا إلى زمن “الاعتراف”… سرّ التوبة. فهل تِبنا أم تبّت أيادينا؟!
نافل القول… لا يمكن لدولة “الأمن بالتراضي” إلا أن تكون هزيلة النتائج، هزليّة الشعارات الرنانة. ولا يمكن لنا، عُشاق الدولة، إلا أن نُبادل أفعالاً لا كلمات. فالجريمة النكراء وقعت في ظل خطة رسمية لبسط سيطرة الجيش على السلاح الفلسطيني غير الشرعي.
مأساة إيليو ما زالت تكشف أخلاق الدولة قبل أن تكشف فوضاها، وما نحن في معادلاتها اليومية إلا خسائر جانبية في معارك العلاقات العامة.
يُقتل المواطن، لا بل قُتل مواطن ووزير ونائب وقائد ورئيس وزراء، برصاص سلاح غير شرعي، في عاصمة يفترض أنها تحت سيطرة الدولة. وضحية اليوم ترك أهله وحدهم أمام الكاميرات يقبلونه في النعش. أما الرئيس والرئيس، فيعزيان الطبقة التي أنتجت المأساة.
في منطق الحكم هذا، الدولة لا تواسي الضحايا لأنها تخافهم. فوجه الأم الباكية بصوتٍ يشق الصمت، مرآة تُذكّرها بجريمتها. لذلك… تفضل أن تعزي نفسها وبعضها وبعض قرّاء تغاريدها، لأن الألم الحقيقي يُحرجها. مشهد دقيق عن دولة بلا وجدان يُشيّع فيها الناس أبناءهم، بينما تشيّع هي ما تبقى من ماء الوجه.
لم نكن بحاجةٍ لعرّافِين أو قارئِي الفنجان، كي نتوقع مآل ملف “سلاح المخيّمات” المتعيّش أصلًا على فراغٍ لبناني رسميّ يُعزز الفوضى ويُحيّد الحلول. أما ما كان مُفاجئًا فهو سيناريو تهشيم صورة إيليو مرّتين: الأولى، في المماطلة بالتحقيق. والثانية، في الإجابة على سؤال “شو كان عم يعمل هونيك؟”.
قُتل إيليو في قلب مخيم البؤس في بيروت، لتدخل مأساته امتحان القال والقيل، واتهامه بأنه كان “فارًا من الحاجز الأمني لأن المنطقة بؤرة مخدرات!”. غلّ ناشري هذه النظرية العظيمة، كشف أن الحاجز الفلسطيني المسلّح يُشرف على بؤرة مخدرات في مخيم شاتيلا. أي أن الدولة ممثلة بأجهزتها الأمنية تعرف البؤرة وتُنسّق مع الفصائل المُشرفة عليها، والمتروكة “مصلحة” لصيد ضحايا الإدمان!… ولماذا الإشراف على بؤرة المخدرات عوضاً عن القضاء عليها؟!
وهل تكون الرصاصة “مُستحقة”؟ لو كان الضحية شارٍ مُحتمل للمخدرات؟! أم هي الحيلة القديمة نفسها حين تقتل الميليشيات مدنيين وتريح الضمير العام من عبء الحقيقة؟ حيلة تبني أحكامها على فرضيات غير مؤكدة وكافية لتشويه صورة الضحية؟ كفرضية “ماذا لو بقيادته المُسرعة قتل أطفالًا؟ كان من المهم إيقافه”… فرضية لم تحدث، ولم يُقتل أحد إلّاه.
الحقيقة الوقحة أن شابًا لبنانيًا يحمل شهادة عليا، لم يكن متعاطيًا ولا تاجرًا، بل ضحية مجموعات متناحرة في ما بينها تسوّق الأكاذيب كسياسة عامة. وما الروايات المضللة التي سُرّبت بعد الجريمة، إلا جزء من آلة التبرير الجماعي التي تدفن كل جريمة لبنانية تحت ركام “سوء التقدير”.
قُتل إيليو في عاصمته على يد “لاجئ مسلّح يملك الحق بممارسة العنف على الأرض اللبنانية، عُرفاً!”. جملة من المتناقضات، فلا صفة اللجوء الإنساني تليق بكلمة السلاح، ولا الحق يُدمج اصطلاحاً مع ممارسة العنف على أرضٍ لا تنتمي لها، ولا تجيز الأعراف كسر قوانين العالم… كأجهزة أمنية رسمية تنسّق مع حراس المخيمات الفلسطينية من باب الروتين الهجين وحسابات التوازنات. وكيف يمكن للجيش أن “يتسلّم” قتلة مواطن لبناني من جهاز أجنبيّ داخل العاصمة، ولا يشعر بالخجل من تسميته شريكًا في التحقيق؟
ليست المسألة في هوية القاتل فحسب. بل في هوية الدولة التي سمحت له بأن يقتل.
ولكن، حتى لو كان القاتل لبنانيًّا يحمل سلاحًا غير شرعي، لما تغيّر شيء من المشهد؛ لكانت الجريمة هي الجريمة ذاتها، والمبررون ذاتهم، والردّ هو الردّ ذاته، والبيان هو البيان ذاته. لا سلاح إلا سلاح الدولة!… “مش علم ذرّة”..! كلّ من يرفع السلاح خارج الشرعية، هو قاتلٌ محتمل، سواء حمل بطاقة لبنانية أو راية أجنبية. الدم واحد، والسكوت واحد، والخوف واحد. القضية ليست في جنسية من ضغط على الزناد، بل في دولةٍ سلّمت قرارها إلى الفصائل، والطوائف، والعصابات، وحزب إيران، ثم تراجعت خطوةً وراء كلّ جريمة ارتُكبت، لتكتب بيان عزاءٍ جماعي. ولا اختلاف بين الماضي والحاضر.
ومن مرارة ما ذُكر أعلاه، وبالعودة إلى بدء، تتعامل الدولة مع المخيمات كـ “صمّام ضغط” سياسي، لا تريد مواجهة الملف بجدية، خشية الصدام مع الفصائل أو مع الدول الداعمة لها، وفي الوقت نفسه، تستعملها كمكبّ أمنيّ لكل ما لا تريد مواجهته داخل المدن. داخل هذه المساحة الرمادية، تنمو البؤر المزدوجة، تجارة سلاح ومخدرات، نفوذ حزبي وفصائلي، وتهريب منظم تحت حماية التنسيق الرسمي نفسه.
في شاتيلا، “بؤرة المخدرات” ليست سراً لأحد.
الأجهزة تعرف مكانها، وهوية المشرفين عليها، ومسار الأموال الخارجة منها. الدولة تعرف… فهل نجرؤ على اتهامها بالرقص على أوجاع اللبنانيين؟ إذ إن الفوضى في المخيمات، تؤمّن توازن الرعب المطلوب بين الأجهزة والفصائل، وتُبقي الجميع في موقع الحاجة إلى “التنسيق”. فوضى مدروسة ومربحة. فالتاجر يُحمى وتُسلّم الضحايا.
الدم الذي سال في شاتيلا ليس دم إيليو وحده، بل دم السيادة اللبنانية. لا يمكن للبنان أن يتحدث عن “ضبط السلاح غير الشرعي” بينما يفاوض على كل رصاصة. لا يمكن أن يبقى جيشه شريكاً في “التنسيق”مع مسلحين يقتلون مواطنين داخل العاصمة، ثم يُشكر على “تسلمهم”.
بعيدًا من تحدّيات الدولة الموعودة واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم لواقع سلاح المُخيّمات نوعاً من تأجيل الانفجار. الوضع غير سوي بكلّ بساطة. لا يمكن التسليم بسلطة واقع موازية تتحرك بتفاهم ضمني مع الأجهزة اللبنانية. وانتهى البيان.
العدالة لا تعني توقيف ستة مسلحين؛ العدالة أن تُعلن الدولة مسؤوليتها الأخلاقية عن كل رصاصة تُطلق باسمها أو بعلمها أو بصمتها. والحساب الحساب الحساب. نريد عدالة على مستوى الوطن، وعلى مستوى السلاح.
فن الرقص على أوجاع لبنان… وإيليو .


 
															


