تشير التطورات الميدانية الأخيرة إلى أن إسرائيل دخلت مرحلة متقدمة من التحضير الاستخباراتي لحرب جديدة على لبنان، مستخدمة طائراتها المسيرة كأداة رصد وضغط سياسي في آن واحد. فبحسب مصادر عسكرية، تجاوز عدد الطلعات الجوية 22 ألف طلعة منذ وقف إطلاق النار أواخر عام 2024، خلال وقت تعمل فيه تل أبيب على تحديث بنك أهدافها الذي يضم نحو 13 ألف هدف تشمل مواقع تخزين سلاح وممرات لوجيستية، ومنشآت مالية ومقار قيادية لـ”حزب الله”. وتتخوف من أن التحضيرات الإسرائيلية قد تطاول مؤسسات الدولة اللبنانية نفسها.
شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيداً غير مسبوق في تحليق الطائرات المسيرة الإسرائيلية فوق الأراضي اللبنانية، إذ باتت جزءاً لا ينفصل عن الأجواء في معظم المناطق اللبنانية، تحلق منخفضة الارتفاع فوق العاصمة ومحيط المباني الرسمية، قصر بعبدا (مقر رئاسة الجمهورية)، والسرايا الحكومية (مقر الحكومة)، ويصف خبراء عسكريون هذا التحليق المكثف بأنه “حرب بلا نار”.
فيما يرى بعض أن السماء اللبنانية اليوم تعكس مأزق الأرض، فالمسيرات التي لا تغادر الأجواء صارت جزءاً من المشهد اليومي منذ سنتين، لكنها أيضاً إنذار دائم بحرب تقترب. الرسائل الإسرائيلية الموجهة عبر هذا الاستطلاع الجوي مفادها بأن المواجهة باتت وشيكة، وبأن العيون التي تحوم فوق لبنان قد لا تكتفي بالمراقبة، إنها تهيئ المشهد للحظة الانفجار.
تصعيد جوي
معلومات عسكرية وتقارير تحدثت أخيراً عن تنفيذ إسرائيل أكثر من 22 ألف طلعة جوية فوق لبنان منذ اتفاق وقف إطلاق النار خلال الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وأخيراً ارتفع عدد المسيرات الموجودة بصورة شبه دائمة داخل المناطق اللبنانية منذ نحو 10 خلال الوقت نفسه لا سيما جنوب لبنان، إلى ما بين 50 إلى 60 مسيرة من مختلف الأنواع تحلق بصورة متوازية لتشمل معظم المناطق. ويتخوف متابعون من أن يكون هدف التحليق تطوير بنك الأهداف الإسرائيلي، في نموذج يسبق الحرب التي شنتها العام الماضي على أهداف تابعة لـ”حزب الله”، إذ عملت إسرائيل خلال العامين الأخيرين على تحديث “بنك الأهداف” وبناء قاعدة بيانات ديناميكية تضم مواقع مستودعات سلاح ومنصات إطلاق وممرات لوجيستية ومقار قيادية، وحتى مؤسسات مالية تتهمها تل أبيب بربطها بـ”حزب الله”، ويقدرها بعض المراجع الأمنية والاستخباراتية بنحو 13 ألف هدف.
ومنذ موجات القصف المكثفة (أواخر عام 2024 وموجات لاحقة)، أعلنت إسرائيل ضرب آلاف الأهداف، مما يعني أن جزءاً كبيراً من البنك استُهدف، لكن الكم المتبقي لا يزال مهماً لأن كثيراً من الأهداف متنقلة أو مخفية أو مرتبطة بشبكات تمويه ولوجيستيات بشرية لا تستنفد بضربات أحادية. بالتالي، الطلعات الجوية والمسيرات المستمرة فوق الجنوب والبقاع (شرق) وضواحي بيروت تلعب دوراً استخباراتياً بالغ الأهمية، إذ كل تحليق منخفض أو استطلاع جوي يجمع صوراً وتسجيلات إشارات ومقاطع رصد حراري وبيانات تغذي قاعدة الأهداف. تقارير ميدانية وتحليلات إقليمية لاحظت تكثيف طلعات الطائرات المسيرة خلال الأيام الأخيرة وفسرتها كحملة تحديث وتنقية لبنك أهداف يشمل تأكيد مواقع متحركة والتحقق من مخابئ جديدة، وكشف شبكات توزيع الذخائر والطرق اللوجيستية ورصد تغيرات في تنظيم مواقع القيادة والاتصالات.
تحذيرات وتحضيرات
في السياق تقول مصادر سياسية متابعة إن الاستخبارات الغربية رصدت خلال الأسابيع الأخيرة مؤشرات ميدانية إلى استعداد عسكري إسرائيلي واسع، تشمل إعادة تموضع للبطاريات الصاروخية وتفعيل أنظمة القبة الحديدية، ومراقبة مكثفة للمناطق المحاذية للحدود الشمالية، ناهيك عن تنفيذ إسرائيل يوم الأحد الماضي مناورات هي الأوسع والأكبر منذ سنتين على حدودها الشمالية المحاذية للبنان.
وضمن هذا الإطار تكشف الأجواء الحكومية أن لبنان تلقى تحذيرات جدية بنية إسرائيل شن هجوم واسع على “حزب الله”، بسبب ما تعده عدم التزام لبناني بوقف تطوير القدرات العسكرية للحزب، فيما طرح إمكانية التفاوض مع إسرائيل من الجانب اللبناني أخيراً قد يكون نتيجة إدراك حتمية هذه الحرب والاستعداد الإسرائيلي لها، في محاولة لتأجيلها أو التوصل إلى حلول بديلة عبر الدبلوماسية. كما أن المناورات الإسرائيلية الأخيرة على الحدود، التي حاكت حرباً محتملة على لبنان جاءت متزامنة مع تحليق المسيرات، كل هذا يوحي بتكامل التحضير العسكري مع الضغط النفسي والسياسي.
رسائل سياسية
وعلى رغم المخاوف العسكرية الكبيرة، لكن البعض يعتبر أن ما يحدث من تكثيف تحليق المسيرات فوق العاصمة بيروت وتحديداً منطقة الضاحية الجنوبية، لا يخلو من غايات سياسية ونفسية واضحة، إذ هدفه ترسيخ شعور “حزب الله” بالمراقبة الدائمة وبقدرة إسرائيل على تجاوز الأجواء اللبنانية إلى أي مكان وزمان. ووصف ضباط سابقون في الجيش اللبناني هذا الأسلوب بأنه “سلاح نفسي”.
يرى الكاتب والمحلل السياسي سمير سكاف أن ما يشهده لبنان من تكثيف لتحليق الطائرات المسيرة الإسرائيلية بات يشكل “غزواً جوياً يومياً”. وقال “إن هذه المسيرات أصبحت رفيقاً مزعجاً للبنانيين في حياتهم اليومية، فهي لا تفارق الأجواء منذ ساعات الصباح، وتحوم فوق مختلف المناطق اللبنانية من الجنوب إلى بيروت، مروراً بالضاحية الجنوبية والجبل والبقاع، وصولاً إلى محيط مطار بيروت والقصر الجمهوري في بعبدا”، ورأى أن الدلالة الأساس لهذا النشاط الجوي المكثف تكمن في أن الجيش الإسرائيلي يقوم برسم بنك أهداف جديدة داخل الأراضي اللبنانية، “عبر عمليات تصوير دقيقة وجمع إحداثيات لمواقع محددة، في ما يبدو تحضيراً لحرب مقبلة”، وأوضح أن “هذه الإجراءات عادة ما تسبق فتح الجبهات، إذ تستعمل المسيرات لتحديد الأهداف وتقدير مدى الإصابة قبل أي عمل عسكري محتمل”. وأضاف أن ما يجري يحمل مؤشرات خطرة للغاية لأن “لبنان يبدو وكأنه مقبل على مواجهة عسكرية حتمية، إذ إن كل هذه التحضيرات تذكر بالمرحلة التي سبقت الحروب السابقة مع إسرائيل”. وأشار إلى أن دور الطائرات المسيرة في الحرب المقبلة سيكون محورياً، مستشهداً بالتجربة الروسية – الأوكرانية التي أظهرت كيف أصبحت السماء ميداناً رئيساً للمعارك الحديثة بين المسيرات الهجومية والدفاعية. وتابع أن المسيرات اليوم لا تستخدم فقط لأغراض المراقبة بل لأهداف هجومية، “إذ باتت تطلق قذائف صغيرة وتستهدف آليات أو منشآت محددة، وهو ما قد نشهده في أية حرب مقبلة على لبنان”، واعتبر سكاف أن هذا الاستخدام المزدوج الاستطلاعي والعسكري يرفع منسوب الخطر إلى مستويات غير مسبوقة، مشيراً إلى أن الحرب المقبلة، إذا وقعت، ستكون أشد تدميراً من سابقاتها. وختم بأن هناك مؤشرات ميدانية أخرى تدعم هذا الاستنتاج، منها التدريبات الإسرائيلية المكثفة على الحدود اللبنانية، التي تشمل تحركات للمركبات الجوية شبيهة بتلك التي استعملت خلال عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، موضحاً أن إسرائيل ربما تستعد لاستخدام مركبات مشابهة لتنفيذ عمليات إنزال خلف خطوط “حزب الله”.
الدولة هدفاً
من جانبه، ربط العميد المتقاعد سعيد القزح بين هذا التصعيد الجوي والتحولات في النظرة الإسرائيلية إلى لبنان ككل، ورأى أن ظاهرة تكثيف المسيرات في الأجواء اللبنانية لها هدفان أساسيان، “الهدف الأول هو الاستطلاع الميداني وجمع المعلومات تمهيداً لأية عملية مرتقبة إذا لم تستجب الدولة اللبنانية و’حزب الله‘ للمطالب الدولية المتعلقة بحصر السلاح بيد الدولة. فالمسيرات، تعمل على رصد كل جديد وكل متغير حصل منذ وقف إطلاق النار، أما الهدف الثاني فهو الضغط السياسي المباشر على الدولة اللبنانية. فالتحليق فوق مناطق حساسة مثل بعبدا والسرايا ومطار بيروت ليس صدفة، بل رسالة مفادها أن إسرائيل تعد الدولة اللبنانية الخصم الفعلي في أية حرب مقبلة، وليس ’حزب الله‘ وحده”. وأضاف القزح أن هذا التحول يعني أن إسرائيل قد توسع بنك أهدافها ليشمل شخصيات رسمية ومقرات حكومية وبنى تحتية مدنية استراتيجية، في إشارة واضحة إلى أن المواجهة المقبلة قد لا تفرق بين مؤسسات الدولة والحزب. وختم بأن هذا التطور “يضع لبنان أمام خطر وجودي، لأن إسرائيل لم تعد تتعامل مع الحزب ككيان منفصل بل كجزء من بنية الدولة نفسها”.
الجبهة الرقمية المفتوحة
وفي سياق تصاعد تحليق المسيرات الإسرائيلية فوق مواقع رمزية كمقر رئاسة الجمهورية في بعبدا والسرايا الحكومية، يبرز بعداً أكثر خطورة من مجرد الاستعراض الجوي أو الاستطلاع التكتيكي.
وحذر المتخصص في تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني عامر الطابش “من أن الطائرات المسيرة الإسرائيلية تعمل فعلياً كنظم استخباراتية جوالة ذات قدرة اختراق غير مسبوقة، وتحولت إلى ما يشبه أقماراً صناعية منخفضة الارتفاع تبني بنك أهداف حياً لحظة بلحظة. وأوضح “أن ما تقوم به هذه الطائرات يتجاوز المراقبة البصرية التقليدية، إذ تجهز بكاميرات حرارية متقدمة تمكنها من رصد حرارة الأجسام البشرية والمركبات في الظلام، بالتالي تتبع تحركات الأشخاص داخل الأبنية أو الأنفاق أو الحقول حتى خلال ساعات الليل. وتدمج هذه الصور الحرارية مع معطيات من كاميرات بصرية فائقة الدقة، قادرة على تكبير الصور حتى مستوى التعرف على لوحة سيارة أو وجه شخص، مما ينتج صورة تكتيكية ثلاثية الأبعاد حية للمكان المستهدف”. وتابع “تستخدم هذه المسيرات رادارات تسمح لها بكشف تحركات آليات أو معدات حتى تحت الأرض أو خلف الحواجز الخرسانية. المعلومات التي تجمعها لا تخزن فحسب، بل ترسل خلال الوقت الحقيقي إلى مراكز القيادة داخل إسرائيل، وتدمج مع بيانات الأقمار الاصطناعية لتحديث بنك الأهداف، إلا أن الأخطر يكمن في القدرات السيبرانية لهذه الطائرات، فنحن نتحدث عن وحدات طيران تعمل كمشغلات حرب إلكترونية، إذ يمكنها انتحال صفة أبراج إرسال خلوية لبنانية، بالتالي التقاط مكالمات أو رسائل أو تحديد الموقع الجغرافي للهواتف المتصلة بها”. ولفت إلى “أن مسيرة واحدة يمكنها في غضون دقائق رسم خريطة كاملة لحياة الاتصالات في حي سكني”، وأكد أن المعلومات المجمعة لا تحلل يدوياً، “بل تعتمد على أنظمة ذكاء اصطناعي تشغل خوارزميات معقدة لتحليل أنماط الحركة والتعرف على الأنشطة، بل وحتى تصنيفها بحسب الأولوية. وفي بعض الحالات يستطيع الذكاء الاصطناعي تحديد موقع عنصر مشتبه فيه، ورفع توصية مباشرة باستهدافه تنفذ خلال دقائق عبر غارة أو صاروخ موجه”.
أما في ما يتعلق بالأثر الاستراتيجي، فرأى أن هذه القدرات تضع الدولة اللبنانية أمام مأزق أمني حقيقي “فهي لا تقتصر على مراقبة ’حزب الله‘ أو منشآت عسكرية، بل تشمل التنصت على شبكات رسمية ومدنية واستهداف البنية التحتية للاتصالات. كل ما يتحرك في الأجواء يُشاهَد، وكل ما يقال عبر هاتف أو جهاز يمكن أن يُسمَع. هذا يعيدنا إلى مفهوم السيادة من أساسه”، وختم الطابش بأن “إسرائيل لا تستخدم هذه الطائرات لجمع معلومات فحسب، بل لبناء ساحة حرب رقمية متكاملة تسبق أي تصعيد عسكري على الأرض”، وحذر من أن استمرار هذا التفوق التقني الإسرائيلي سيجبر لبنان عاجلاً أم آجلاً على التفكير جدياً في بناء قدرات مضادة جوية وسيبرانية، وإلا ستظل الدولة والمجتمع مكشوفين تماماً، أمنياً واستخباراتياً.
“عيون إسرائيل” تهدد السياسيين وتحدث “بنك الأهداف” في لبنان .





