فضيحة الشهادات المزورة أعادت فتح ملف التعليم العالي في لبنان، بعد تسريب تسجيلات تكشف “سوقاً سوداء” لبيع شهادات ماجيستير ودكتوراه من جامعات لبنانية، إذ أظهرت مراسلات مسجلة من وسطاء يدعون امتلاك نفوذ داخل وزارة التربية لتأمين شهادات مصدقة مقابل مبالغ مالية. رئيس الجامعة اللبنانية، الدكتور بسام بدران، رد مؤكداً أن أنظمة الجامعة الإلكترونية لا يمكن اختراقها، وأن ما يجري “احتيال من خارج المؤسسة” يستغل ثقة الناس وجهلهم بالإجراءات الأكاديمية.
في زمن ٍغير بعيد، كان التعليم العالي في لبنان أحد أبرز دعائم التقدم في العالم العربي، ومصدر إشعاع أكاديمي وثقافي لطلاب المنطقة.
شكلت بيروت وجهةً للطلاب العرب، واستقطبت جامعات لبنان، وعلى رأسها الجامعة اللبنانية، الآلاف من أبناء الدول العربية، لما كانت تتمتع به من معايير أكاديمية عالية، واستقلالية فكرية، وتنوع علمي وتخصصي.
إلا أن هذا القطاع الذي كان عنواناً للتقدم يعيش اليوم حالة انهيار غير مسبوقة وسط أزمات اقتصادية وسياسية خانقة، وفضائح تربوية متزايدة، تهدد ما تبقى من صدقية التعليم الرسمي في البلاد.
شبكة تزوير وبيع شهادات
انفجرت أخيراً فضيحة مدوية في الجامعة اللبنانية، وُصفت بأنها “أخطر ملف يضرب التعليم الرسمي منذ نشأة الدولة اللبنانية”. فقد تبين وجود شبكة تزوير وبيع شهادات في اختصاصات مختلفة، كُشف أمرها صدفةً بعدما اشتبهت أكاديمية بعمليات تزوير منظم في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية – الفرع الأول، الواقعة في منطقة الحدث في جبل لبنان.
وفق المعلومات القضائية، فقد تجاوز التلاعب بالعلامات حدوده ليصل إلى اختفاء كراسات امتحانات كاملة، وتزوير تواقيع، وتمرير طلاب راسبين مقابل مبالغ مالية. وقد أُبلغت الجهات الأمنية بالأمر، فجرت تحقيقات سرية استمرت لأشهر وأوقعت “الخلية الأولى” بالجرم المشهود، قبل أن تتساقط الاعترافات وتطاول أكثر من 16 شخصاً من الأكاديميين والإداريين، إلى جانب “مؤسسة خارجية” بغطاء أكاديمي كانت تصطاد الزبائن وتبيعهم شهادات بالتنسيق مع الشبكة الموجودة داخل الجامعة.
التحقيق الذي لا يزال مستمراً، كشف حتى الساعة عن وجود شبكة داخلية تتولى بيع الشهادات الجامعية وتزوير النتائج، فيما تراوحت الأسعار بين 5500 و7300 دولار مقابل النجاح أو التخرج. في حين شارك موظفون وأساتذة في تمرير معاملات غير قانونية عبر تبديل أوراق امتحانات، أو التلاعب بمنصة العلامات الإلكترونية، أو توقيع مستندات مزورة باسم أساتذة لا علم لهم بما نُسب إليهم.
كذلك تبين أن طلاباً لبنانيين وعراقيين وكويتيين، بعضهم ضباط، حصلوا على شهادات جامعية بطريقة مشابهة، ما أثار علامات استفهام إقليمية حول الاعتراف بهذه الشهادات وكشف عن شبكة منظمة اخترقت واحدة من أهم مؤسسات التعليم الرسمي في لبنان.
التلاعب بالامتحانات
لم تقف التحقيقات عند هذا الحد، إذ كشفت وقائع مروعة عن كيفية تنفيذ التزوير في الامتحانات. فقد تم التلاعب مباشرة بنظام العلامات الإلكتروني الرسمي (Banner) عبر تغيير علامات الراسبين، واستبدال كراسات الامتحانات بعد تصحيحها ووضع علامات ناجحة عليها.
كما لجأت الشبكة إلى نزع الدباسات من الكراسات الأصلية واستبدال أوراق داخلية بأخرى تحمل إجابات صحيحة. وفي حالات أخرى، سُرقت كراسات امتحانات من طلاب ناجحين وتبدلت أسماؤهم لمنح النجاح لآخرين.
وقد خُصصت بعض القاعات في حرم الجامعة (المذكورة أعلاه)، مثل “المدرج 1” لعمليات غش منظم باستخدام الهواتف والسماعات، في ظل غياب أي رقابة فعلية.
تحرك قضائي وموقف من نواف سلام
وقدم المدعي العام في جبل لبنان، القاضي سامي صادر، ادعاء باسم الحق العام على المدير السابق للفرع الأول في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية (م.م) وأمين السر (ط.ب) وعدد من الموظفين والمتدخلين، بجرائم تتعلق بتزوير مستندات رسمية واستعمالها، والإخلال بواجبات الوظيفة، والإهمال الوظيفي، وعرقلة سير التحقيق، إضافةً إلى تمزيق وإخفاء وثائق رسمية، ومحاولة طمس الأدلة، والتلاعب بوقائع مرتبطة بالامتحانات الجامعية.
وقد استمع القضاء بالفعل إلى أكثر من 50 شاهداً وادعى على 16 منهم، وأفضت التحقيقات إلى توقيف ثلاثة أشخاص، هم مدير الكلية وأمين سر الفرع، وطالب متورط في استخدام أوراق امتحانات مزورة.
فيما كشفت أعلنت مصادر قضائية أن المدعي العام في جبل لبنان أصدر الادعاءات الرسمية بحق المتورطين استناداً إلى المواد الجرمية التي تشمل التزوير، إساءة الأمانة، الاحتيال، واستعمال المزور.
دفعت هذه الفضائح رئيس الحكومة نواف سلام إلى التحرك السريع، إذ تواصل مع وزيرة التربية ريما كرامي وطالب بفتح تحقيق فوري. وسرعان ما تولت النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان الملف، بتنسيق مباشر مع النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، الذي كلف جهاز أمن الدولة بالتحقيقات الأولية.
وكانت الجامعة اللبنانية أصدرت بياناً نفت فيه بشكل قاطع كل ما “يتداول إعلامياً حول الشهادات المزورة”.
أستاذ جامعي ينفي مسؤوليته
بعد الكشف على سجلات الامتحانات، ظهرت نتائج صادمة: تم استبدال أوراق امتحانات كاملة بكراسات مزيفة، وتزوير تواقيع الأساتذة على أوراق لم يكتبوها، وتعديل العلامات يدوياً وإلكترونياً عبر المنصة الرسمية. فيما اختفت الامتحانات الأصلية من الأرشيف واستُبدلت بأخرى “مفبركة”.
فيما تكشف المصادر القضائية أنه في إحدى المواجهات، أكد أستاذ جامعي أن التوقيع المنسوب إليه مزور بالكامل، وقال “هذا ليس خطي، ولا وضعت هذه العلامة، ولم أر هذه الورقة من قبل”.
رأس جبل الجليد
فضيحة كلية الحقوق الفرع الأول لم تكن سوى رأس جبل الجليد. فقد سبقتها وقائع مماثلة في فروع أخرى، أبرزها كلية الآداب – الفرع الثالث في طرابلس شمال لبنان، حيث سربت تسجيلات صوتية بين المديرة وطالبة تُدعى “آية”، كانت تجمع الأموال من الطلاب مقابل إعطائهم نتائجهم قبل صدورها رسمياً، وفق تقارير صحافية.
المكالمات كشفت تهديدات وضياع أموال وتخريج طلاب راسبين، إضافة إلى “مداولات” تمت خارج الأطر القانونية. وتبين أن المديرة تلاعبت بالنتائج مقابل مبالغ مالية، فيما تجاهلت الإدارة مطالبات الطلاب باستعادة أموالهم.
كذلك وُجهت اتهامات للإدارة بتسريب النتائج قبل الإعلان الرسمي مقابل رسم قدره 65 دولاراً، وشارك بعض الطلاب في حفلات تخرج على رغم رسوبهم فعلياً. وأكدت شهادات طلابية أن طالبة التي تدعى “آية” كانت تتولى جمع الأموال والتنسيق مع المديرة مباشرة.
فيما يقول متابعون لهذا الملف إن الأخطر أن امتحانات الدخول إلى كليات حساسة كـالطب والهندسة ومعاهد الدكتوراه لم تسلم من التدخلات، إذ تُدار اليوم في كثير من الحالات من قبل مكاتب تربوية حزبية، ما يخضعها لمنطق المحاصصة الطائفية والسياسية بدلاً من معيار الكفاءة الأكاديمية.
تجاوزات مماثلة في الجامعات الخاصة
لم تكن الجامعة اللبنانية وحدها في مرمى الاتهامات، إذ شهدت الجامعات الخاصة بدورها تجاوزات خطيرة. أبرزها “الجامعة الإسلامية” في لبنان، التي كشفت تقارير عدة نشرت في بداية عام 2025 تورطها في ملفات تزوير شملت تسجيل أكثر من 2000 طالب عراقي وسوري من دون أوراق رسمية، وبيع شهادات جامعية. وقد فتح القضاء اللبناني حينها تحقيقات موسعة لا تزال معلقة على رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على القضية.
وذكرت مصادر في وزارة التربية تعليقاً على هذا الملف أن أكثر من 4000 معاملة معادلة لشهادات جامعية لا تزال معلقة بسبب شبهات تزوير، وأن بعض الموظفين أوقفوا على خلفية تلقي رشى لتسهيل المعادلات.
هذه الفضائح أثرت سلباً في سمعة الشهادات اللبنانية، ما دفع بعض الدول العربية إلى تقليص الاعتراف بها أو فرض تدقيق إضافي على خريجي الجامعات اللبنانية.
وقالت تقارير دولية إن لبنان الذي كان يُعرف بـ “عاصمة المعرفة” لم يعد يحظى بالثقة الأكاديمية السابقة.
توضيح الجامعة اللبنانية
وفي السياق، يوضح رئيس الجامعة اللبنانية د. بسام بدران في مداخلة توضيحية حول فضيحة “سوق” بيع الشهادات المزورة والتسجيلات التي ظهرت أخيراً، بالقول إنه ما قُدِّم في التسجيلات أشبه بحكاية “سوبرمان وكأن هناك وسيطة تدعي أنها قادرة خلال لحظات على شراء شهادات ماجيستير ودكتوراه، وتصديق داخلي وخارجي، وحتى “نسخ احتياطية” للشهادات، وتابع “هذا الكلام يحتاج إلى كثير من التدقيق”.
ويوضح أنه في الجامعة اللبنانية لدينا نظام معلوماتي واحد Banner كسائر الجامعات المرموقة في العالم، وأي تعديل على علامة أو سجل أكاديمي يظهر فوراً على النظام، ولا يمكن “اختراقه” أو تمرير تغيير غير موثق من دون أن يترك أثراً واضحاً.
وأضاف أن القاعدة المهنية العالمية واضحة وأي جهة أكاديمية أو صاحب عمل يطلب التحقق من صحة شهادة ما، يراسل المصدر مباشرة. نحن نجيب رسمياً، وقد لاحقنا قضائياً عدداً من الحالات التي وردتنا من جامعات في الخارج تبين فيها أن المستندات مجرد صور ملونة مركبة بتطبيقات مثل “فوتوشوب”. مؤكداً أن هذا الأمر يحصل أيضاً في بعض الجامعات الخاصة، وهذه القضايا تُحال إلى القضاء. وقال “من يدعي صنع شهادة جاهزة بكبسة زر إما أنه ينصب على الناس، وإما أن ثمة فاسداً في إدارة ما وفي الحالتين المسار يجب أن يكون قضائياً”.
وعن ادعاء وجود تواطؤ داخل وزارة التربية يقول “لدينا احتمالان لا ثالث لهما، إما وجود موظف فاسد داخل الوزارة، وهذا ما نتابعه مع معالي الوزيرة، والملف لديهم رسمياً كإخبار، وإما أن من يتواصل مع الناس محتال يأخذ دفعة مالية مسبقة ثم يختفي. نمط الدفع المسبَق من علامات النصب المعروفة. سنتابع لنسمع نتائج التحقيق من الوزارة، وقد أبلغونا أنهم يعملون على الأمر”.
سيدة زعمت امتلاك دكتوراه
يكشف بدران أن الجامعة تحققت من بعض الأسماء التي ظهرت في التسجيل “طُلِب منا التدقيق في اسم سيدة زعمت امتلاك دكتوراه. بالبحث لم يظهر لها سجل على مستوى الإجازة ولا على مستوى الماستر لدينا، ثم عادت وقالت إنها مسجلة للدكتوراه في سنة لاحقة. نحن قادرون على التحقق نظامياً، لكن المواطن العادي قد ينخدع بورقة ملونة أو ختم مزعوم… هذا لا قيمة أكاديمية له”.
ويعلق على “لائحة الأسعار” التي انتشرت وفيها حديث عن خمسة آلاف، وستة آلاف وإضافة ألف دولار بحسب الجامعة والاختصاص، بالقول “كله يُظهِر منطق البزنس أكثر مما يعكس واقع الاعتراف الأكاديمي. شهادة الجامعة اللبنانية تمر حكماً بمسار توثيق في وزارة التربية، وأي شهادة تُقدم في سوق العمل أو للهجرة تُخاطب للتحقق من مصدرها. لا ننفي وجود تزوير شكلي عبر تصوير ولصق في بعض الأماكن، وهذا نلاحقه قضائياً، لكن تعميم الإساءة يضرب سمعة الشهادة اللبنانية برمتها”.
ويختم “الإساءة الأخطر ليست في تسجيل ادعاء هنا أو هناك، بل في ضرب الثقة بقطاعنا التربوي. ما حدث في كلية الحقوق، تبديل كراسات وتعديل علامات، تتعامل معه الجامعة بشفافية ومحاسبة متدرجة عبر لجنة تحقيق أكاديمية داخلية، ومسار قضائي لأي تزوير بمستندات رسمية. أنظمتنا تكشف الخلل، وإدارتنا تحاسب.
نشأة التعليم العالي في لبنان
تبلورت فكرة إنشاء الجامعة اللبنانية في أواخر الأربعينيات، كاستجابة لمطالب طلابية وشعبية بضرورة إقامة مؤسسة رسمية تحتضن أبناء الوطن كافة. وفي عام 1951، أدى إضراب واسع لطلاب التعليم الثانوي والجامعي إلى تأسيس “دار المعلمين العالية”، ومن ثم انطلقت الجامعة رسمياً باستقبال أول فوج من 68 طالباً في نهاية ذلك العام. وفي عام 1959، صدر المرسوم الذي حدد أن الجامعة اللبنانية هي المؤسسة الرسمية للتعليم العالي في مختلف فروعه، وفي عام 1967 حصلت على استقلالها الأكاديمي والإداري.
جاءت الجامعة لتجسد مفهوم الوحدة الوطنية، جامعةً طلاباً من مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية، ومنفتحة على العالم العربي. وخلال عقود، تحولت إلى منبرٍ لإنتاج الكفاءات اللبنانية والعربية، وحصدت احتراماً محلياً ودولياً.
العصور الذهبية
في سبعينيات القرن الماضي، بلغت الجامعة اللبنانية ذروة مجدها الأكاديمي. وفي تلك المرحلة توسعت كلياتها لتشمل أغلب ميادين العلوم والآداب، وأنشأت معاهد عليا للدكتوراه، ما رسخ حضورها في العالم العربي.
كانت بيروت حينها عاصمة العلم والمعرفة، تستقطب طلاباً من المنطقة والمشرق والمغرب، وتحظى الجامعة اللبنانية بسمعة مرموقة تفوقت أحياناً على جامعات خاصة شهيرة.
هذا العصر الذهبي كان تجسيداً للتوازن بين الاستقلال الأكاديمي والانفتاح العلمي، وبين التنوع اللبناني والوحدة التعليمية. إلا أن هذا الوهج بدأ بالتراجع مع اندلاع الحرب الأهلية (1975 – 1990).
“تسييس” الجامعة اللبنانية
مع اندلاع الحرب الأهلية أصيب النسيج المؤسسي للجامعة اللبنانية بشرخ عميق. تحولت فروعها إلى “تفريعات” خاضعة لمرجعيات محلية وطائفية. وبعد اتفاق الطائف، تعمقت التدخلات السياسية، إذ فُرغت صلاحيات مجلس الجامعة لمصلحة مجلس الوزراء، وفرضت المحاصصة الطائفية نفسها في تعيين العمداء والأساتذة.
ومنذ عام 2019، تعرض لبنان لانهيار مالي كارثي انعكس مباشرةً على قطاع التعليم. تدهورت قيمة الليرة اللبنانية وارتفعت نسبة الفقر، فاضطر آلاف الطلاب إلى ترك مقاعدهم الدراسية والبحث عن عمل. وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة طلاب الجامعة اللبنانية انخفضت من 60 في المئة عام 2000 إلى 30 في المئة فقط عام 2022، مقابل توسع كبير للجامعات الخاصة.
أما الجامعة اللبنانية، فتعاني تآكل رواتب الأساتذة، وتجميد عقود التفرغ، وتراجع قدرتها على جذب الكفاءات. أدى ذلك إلى تدهور جودة التعليم وازدياد الاعتماد على الدروس الخصوصية والتعاقدات غير المستقرة. أصبحت فرص النجاح والتخرج أحياناً مرهونة بالإمكانات المادية لا بالكفاءة الأكاديمية، ما أفقد المؤسسة الكثير من عدالتها التعليمية.
شبكة داخلية تتولى بيع الشهادات الجامعية وتزوير النتائج: فضيحة تهز التعليم العالي الرسمي في لبنان .





