لم يعد الفساد في قطاع الاتصالات مجرّد شبهة أو تهمة تطلق في الكواليس. فما كُشف مؤخرًا حول ملف الأرقام المميزة يفضح وجود شبكة ظل داخلية تعمل بتنسيق محكم بين جهات إدارية مختلفة، من داخل الوزارة نفسها وصولًا إلى الشركة المشغِلة. والنتيجة: أرقام نادرة تُمنح لأشخاص لا علاقة لهم بها، وبأساليب تثير الريبة وتطرح أكثر من علامة استفهام حول من يملك السلطة الحقيقية على هذا الملف. فبحسب المستندات التي جرى تداولها، تبيّن أن عددًا من الأرقام المميزة تمّ إصدارها على أسماء أفراد لا يملكون الإمكانات المادية أو الصلاحيات التي تسمح لهم بالحصول على هذه الأرقام. مصادر متابعة في وزارة الاتصالات أكدت لـ “نداء الوطن” أن هذه الأسماء ليست سوى واجهة تُستخدم لتغطية المستفيدين الحقيقيين من داخل المنظومة.
وفق التقرير الداخلي الموثق، حيث كانت “لام جيم” تحجز الأرقام في النظام الوزاري على أسماء وهمية أو على أشخاصٍ لا يملكون القدرة الفعلية على اقتنائها، ثم ترسل الكتب الرسمية قبل صدورها فعليًا إلى موظف الشركة “ألف فاء” عبر تطبيق “واتساب”، ليقوم الأخير بتسجيل الحجز في نظام الشركة قبل أن تصل المعاملة إلى البريد الرسمي.
هذه الخطوط كانت تُباع بعد فترة قصيرة، في مخالفة فاضحة للبروتوكولات الداخلية. والأخطر أنها تُصدر وتُلغى ويُعاد إصدارها أكثر من مرة لتغطية أثرها المالي والإداري.
التحقيق الداخلي أظهر أن عددًا من الأرقام من فئات “Diamond” و”Golden” قد تمّ حجزها وتسليمها بطرق غير نظامية، من بينها:
70008008، 70001001، 70006006، 81888883، 71244244، 70717111، 81066666.
وقد أقرّ أحد المتورطين في اتصالٍ رسمي بأنه “باع الأرقام بعد فترة من حجزها”، معترفًا ضمنيًا بخروجه عن الأصول، علمًا أنّ بيع الأرقام المخصصة رسميًّا يُعدّ خيانة للأمانة واستغلالًا للوظيفة. والملفت أنّ هذه الأفعال لم تكن سريّة بالكامل!
بعد هذه الفضيحة تم تقديم شكوى داخلية من قبل موظف في العام 2023 بشأن أنشطة مشبوهة تتعلق ببيع الأرقام المميزة من قبل مدير أول في مركز الخدمة. ومع ذلك، لم يتم اتخاذ أي إجراء أو متابعة من قبل المشرفين أو المديرين التنفيذيين، فبقيت الشكوى من دون معالجة لما يقرب العامين، مما سمح بتفاقم المشكلة.
هذا النقص في التحقيق والمتابعة في الوقت المناسب أدى إلى المزيد من تأزم المشكلة، وكان من الممكن لو تمت المعالجة الصحيحة والقانونية أن تخفف من سوء استخدام السلطة وتجنب الشركة مخاطر سمعية ومالية. فبالتزامن، وردت ملاحظات وتحذيرات إلى إدارة Touch من داخل الشركة نفسها منذ أشهر، لكن الإدارة لم تتخذ أي إجراء جدّي، بل اكتفت بإغلاق الملفات داخليًا تحت ذريعة “معالجة داخلية”.
وحتى بعد صدور تقرير التدقيق الداخلي الذي أثبت وجود تنسيق مباشر بين “لام جيم” و “واو. ط” و”ألف. ف”، لم تُتخذ بحقهم إجراءات تأديبية حقيقية، بل جرى التعامل مع الفضيحة وكأنها “حادث إداري بسيط”. وتفيد المستندات الداخلية واللائحة التي بحوزة “لام. جيم.” (الموظفة في وزارة الاتصالات)، بأنّ هناك قائمة مفصّلة تربط عددًا من الأرقام المميزة مباشرة بشخصٍ واحد أو بأقربائه. وتشير هذه القائمة إلى أن أرقامًا محدَّدة أُصدرت مسجلةً باسم شقيقاته في الظاهر بدل تسجيلها باسم المالكين الفعليين، ما يوفر غطاءً قانونيًا ظاهريًا لعمليات نقل الملكية اللاحقة. وقد أظهر التحقيق أن معظم الأسماء المسجّلة على هذه الأرقام ليست واقعية من حيث القدرة الشرائية أو علاقة المستفيدين المحتملين بالشراء (أي لا يملكون الدخل أو الوضع المالي الذي يبرّر اقتناء خطوط بهذا المستوى)، ما ينعكس بقوة على فرضية استخدام هويات أو أسماء ثلاثية لتغطية تحويلات مالية واستغلال المنصب.
هذا المستند “لام. ج.” يعدُّ دليلاً ماديًا على تنسيقٍ مُسبق بين موظفة الحجز في الوزارة و”واو. ط” و”ألف. ف”، إذ يثبت كيف تُحوَّل إجراءات الحجز إلى صيغ تُسهِم لاحقًا في نقل الأرقام وبيعها خارج القنوات الرسمية. ونتيجة هذا التلاعب، خسرت الخزينة العامة مبالغ كبيرة نتيجة بيع أرقام مميزة خارج الآلية الرسمية للمزاد العلني. بدلًا من أن تدخل هذه الأموال إلى صندوق الدولة كما حصل في المزاد الأخير الذي درّ آلاف الدولات على الشركة. فذهبت الأرباح إلى جيوب أفرادٍ استغلوا مناصبهم، واستفادوا من غياب الرقابة والردع.
والمفارقة الأخطر أن إدارة Touch الجديدة، بدل أن تبادر إلى وقف المتورطين عن العمل والتحقيق معهم بجدّية، انشغلت بملاحقة من سرّب المعلومات إلى الإعلام، معتبرة أن التسريب هو المشكلة، لا الفساد نفسه. وبهذا السلوك، تحوّل كشف الحقيقة إلى “جريمة”، وأصبح الموظف النزيه هو من يُحاسب، لا من اختلس أو زوّر أو استغلّ موقعه.
وهذه القضية بالتحديد تتجاوز المخالفات الإدارية إلى جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات اللبناني، وتحديدًا:
المادة 351 وما يليها: تعاقب كل موظف يستعمل سلطته أو نفوذه لتحقيق منفعة شخصية أو لغيره.
المادة 357: تعتبر اختلاس الأموال العامة أو استثمارها أو تبديدها جرمًا جزائيًا يُعاقب عليه بالحبس والغرامة.
المادة 373: تجرّم استغلال الوظيفة والإخلال بواجبات الأمانة أو الإضرار بمصالح الدولة.
المادة 359: تنصّ على عقوبة من يشارك أو يتواطأ في إخفاء المال العام أو الانتفاع غير المشروع به.
وبالتالي، فإن الأفعال الموثقة في هذه القضية من إصدار الأرقام قبل الموافقات الرسمية، واستعمال الصلاحيات لتحقيق مكاسب شخصية، وبيع ما هو ملك عام تُعدّ جرائم جزائية مكتملة الأركان، لا مجرد مخالفات إدارية قابلة للتسوية. فالقضية لم تعد مشكلة إدارية داخلية، بل قضية فساد عام تمسّ سمعة الدولة ومؤسساتها. وحين يُتاح لموظف في الوزارة أن يرسل موافقات عبر “واتساب”، ولموظف في الشركة أن يصدر خطوطًا قبل تسجيلها، ولمديرٍ أن يبيع الأرقام بعد فترةٍ من حجزها نكون أمام نظامٍ موازٍ للدولة يعمل من داخلها.
وما لم تُتخذ قرارات حازمة بتوقيف هؤلاء فورًا وإحالتهم إلى القضاء، ستبقى المنظومة نفسها قادرة على إنتاج الفساد بصيغٍ جديدة، ومحاسبة الأبرياء بدل الفاسدين.
وهنا تُطرح أسئلة برسم الدولة وأجهزتها الرقابية فهذه القضية اليوم ليست مجرد مخالفة إدارية، بل هي نموذج فاضح لاستغلال النفوذ والتلاعب بالمال العام. فمن يملك قاعدة بيانات الأرقام المميزة؟ ومن يوقع على منحها؟ ومن يراجع هذه العمليات قبل دخولها إلى النظام؟
هذه الأسئلة ليست برسم الوزارة فقط، بل برسم هيئة الشراء العام، ديوان المحاسبة، والنيابة العامة المالية، لأن الملف لم يعد يحتمل السكوت أو التغطية.
وإذا كانت الدولة جادة فعلًا في فتح ملفات الفساد، فإن فضيحة الأرقام المميزة تشكّل اختبارًا حقيقيًا والمطلوب تحقيق شفاف، علني، يُنشر أمام الرأي العام، ويحدد المسؤوليات من أعلى الهرم إلى أدناه، بدل ملاحقة من يسرّب الحقائق للصحافة أو من يفضح الفساد في العلن. فالقضية لم تعد مسألة “أرقام”، بل مرآة لواقع يختبر صدقية الدولة وقدرتها على المحاسبة.
في حين أن بعض الحالات لم تنطو على انتهاكات مباشرة للقوانين، بل حددت مراجعة الحسابات مبيعات مقومة بأقل من قيمتها، وفحوصات التوقيع المفقودة، وعمليات النقل غير المنتظمة، مما يعرض الشركة لمخاطر مالية ويعرّض سمعتها للتشويه. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن أفرادًا آخرين قد يكونون متورطين في المخالفات المبلّغ عنها، ولكن لا يمكن اكتشافهم أثناء مراجعة الحسابات. لذلك ينبغي للإدارة أن تتصرف من دون تأخير لتنفيذ الإجراءات الموصى بها، وتعزيز الضوابط، وضمان المساءلة.
شبكة الظل في قطاع الاتصالات: فضيحة الأرقام المميزة برسم الدولة والرأي العام .



