حصلت “المدن” على تفاصيلِ مكالمةٍ جرت بين أحدِ الموقوفينَ السّوريّين في سجنِ روميّة، مبنى “ب” المخصّص لقضايا الإرهاب، والنائبِ الجمهوريّ في الكونغرس الأميركيّ جو ويلسون، حيث كشف الموقوفُ، الذي فضّل عدمَ ذكرِ اسمِه في حديثه إلى “المدن”، شهادتَه عمّا يصفُه بانتهاكاتٍ مُمنهَجةٍ طاولت سوريّين ولبنانيّين خلال عقدٍ من الاعتقالاتِ والتوقيفات، ويضعُها في سياقِ نفوذٍ متعاظمٍ لـ”حزبِ الله” داخلَ المؤسّساتِ اللّبنانيّة، وفقَ روايتِه.
قال الموقوفُ في اتّصالِه مع ويلسون، “أنا الآن مُعتقَلٌ أتحدّثُ معكم من داخلِ سجنِ روميّة، أنا أحدُ ضحايا الاعتقالِ التعسّفيّ في السجونِ اللّبنانيّة، أخاطبُكم لا بصفتي سجينًا فحسب، بل بصفتي شاهدًا حيًّا على معاناةِ آلافِ السّوريّين واللّبنانيّين الذين زُجّوا في السجون دون أن يرتكبوا جرمًا، بل لأنّهم عبّروا عن موقفٍ سياسيٍّ معارِضٍ لنظامِ الأسد، في سياقٍ لبنانيٍّ تهيمنُ عليه إيران و”حزبُ الله”، حيث صار التعبيرُ السلميّ عن الرأي تُهمةً بحدّ ذاتِها، وتقدّمت الحساباتُ الأمنيّةُ والسّياسيّةُ على أبسطِ مبادئِ العدالةِ وحقوقِ الإنسان”.
وأضاف، “منذ سقوطِ منطقتَيِ القصيرِ والقلمونِ الغربيّ بيدِ النظامِ السّوريّ وحلفائِه، فرّت آلافُ العائلاتِ إلى لبنان، ولا سيّما إلى عرسال، هؤلاء لم يكونوا مقاتلين ولا متطرّفين، بل مواطنين عبّروا عن قناعاتِهم بوسائلَ سلميّة، مؤمنين بحقّهم في الحرّيّةِ والعدالةِ والكرامة”. وتابع، “عامَ 2014 شكّل نقطةَ تحوّلٍ خطيرة، إذ انطلقت حملةُ اعتقالاتٍ مُمنهَجةٍ في مخيّماتِ عرسال، جرت بتنسيقٍ مع “حزبِ الله” وبدعمٍ من أجهزةٍ أمنيّةٍ لبنانيّة، بذريعةِ دعمِ الثورةِ أو الارتباطِ بفصائلَ معارِضة، تعرّضَ الموقوفون لتعذيبٍ شديدٍ وثّقتْه شهاداتٌ مصوّرة، وسُجِّلَت حالاتُ وفاةٍ أمامَ الأُسَر، واقتحاماتٌ لمراكزٍ طبّيّة، واعتقالُ جرحى”.
وبحسبِ الشهادة، توسّعتِ الانتهاكاتُ داخلَ مراكزِ الاحتجاز، “من تعذيبٍ نفسيٍّ وجسديّ، وتهديدٍ باغتصابِ الزوجاتِ أو اعتقالِ الأقارب، وإخفاءٍ قسريّ، وانتزاعِ اعترافاتٍ تحتَ الإكراه، ثمّ محاكماتٍ جائرةٍ حُرِم فيها المعتقلون من أبسطِ ضماناتِ العدالة”. ويقول إنّ “عناصرَ مرتبطين مباشرةً بـ”حزبِ الله” أشرفوا على التحقيقِ والتعذيب، فيما تولّى محاكمتَهم قضاةٌ معروفون بولائِهم للحزبِ والسفارةِ الإيرانيّة”. ونتيجةً لذلك، “لا يزال المعتقلون حتّى اليوم في سجنِ روميّة، تحتَ ظروفٍ إنسانيّةٍ بالغةِ القسوة”.
ويُصوّر الموقوفُ سجنَ روميّة بوصفِه “رمزًا صارخًا للانتهاكات”، إذ “بُنِي لاستيعابِ نحو 1400 سجين، بينما يضمّ اليوم أكثرَ من 4000، ما يجعلُه أحدَ أكثرِ السجونِ اكتظاظًا في المنطقة”. ويتحدّث عن “ظروفٍ صحيّةٍ وغذائيّةٍ قاتلة، وإهمالٍ طبّيٍّ يفضي إلى وفيّاتٍ متكرّرة، ومعاناةٍ شديدةٍ لكبارِ السّنّ وذوي الأمراضِ المزمنة، وصلت في العامِ الماضي إلى حالاتِ انتحارٍ يأسًا من الإهمالِ والحرمانِ من العلاج“.
ويمضي إلى البعدِ السّياسيّ للقضيّة، فيشير إلى أنّه “رغم سقوطِ نظامِ الأسد، ورغم طلبٍ رسميٍّ تقدّمت به السُّلطاتُ السّوريّةُ الانتقاليّةُ لتسلّمِ المعتقلين السّوريّين من لبنان، ما تزالُ الدولةُ اللّبنانيّة ترفض، تحتَ ضغطٍ مباشرٍ من “حزبِ الله”، ما يجعلُ استمرارَ الاحتجاز انتهاكًا صارخًا للقانونِ الدّوليّ”. ويقول إنّ “نفوذَ إيران و”حزبِ الله” تجاوز السياسةَ إلى الأمنِ والقضاءِ وسائرِ مؤسّساتِ الدولة، فهُشِّم استقلالُ القرارِ الوطنيّ ومسارُ العدالة، وتحولت المؤسّساتُ إلى أدواتٍ تُدار بمنطقِ الحزب، لا بمنطقِ الدستورِ والقانون”.
ويستشهد الموقوفُ بما يصفُه “نموذجًا دالًّا” إلى هذا النفوذ، فيُحيل إلى تحقيقاتٍ دوليّةٍ بشأنِ ضابطٍ بارزٍ “مرتبطٍ بالحزب”، متَّهَمٍ بقضايا خطفٍ وانتهاكاتٍ جسيمة، “يتحرّك داخلَ لبنان في حمايةِ جهاتٍ متواطئة”، على حدِّ تعبيرِه. ويرى أنّ “هذه ليست حالةً منفردة، بل جزءٌ من منظومةٍ جعلت الأجهزةَ الأمنيّةَ والقضائيّةَ خاضعةً عمليًّا لسلطةِ الحزب، الذي يتحكّم بمسارِ المحاكمات، ويُحدِّد من يُعتقَل ومن يُفرَج عنه”. ويضيف أنّ الانهيارَ الماليَّ والاقتصاديَّ “عمّق تعطيلَ مؤسّساتِ الدولة، فيما يواصلُ الحزبُ بناءَ دولةٍ موازيةٍ عبرَ شبكاتِه الخدميّة، ما يُكرِّسُ واقعًا تُصبح فيه العدالةُ وسيادةُ القانون خاضعتين لإرادةِ جهةٍ مُسلّحةٍ مرتبطةٍ بإيران، لا لسلطةِ الدولةِ الشّرعيّة”.
في ختامِ النداء، ناشدَ الموقوفُ المجتمعَ الدّوليّ، فيقول: “نطلب أن تُجعَل قضيّةُ المعتقلين السّوريّين واللّبنانيّين في السجونِ اللّبنانيّة أولويّةً في أيّ مسارٍ سياسيٍّ أو إنسانيٍّ يرتبطُ بمستقبلِ سوريا ولبنان، فالإفراجُ عنهم ليس التزامًا قانونيًّا فحسب، بل واجبًا أخلاقيًّا، ونرجو العملَ للإفراجِ الفوريّ وغيرِ المشروطِ عن جميعِ المعتقلين الذين اعتُقِلوا بسببِ مناصرتِهم للثورةِ السّوريّة، وكشفِ مصيرِ المخفيّين قسرًا، إنّ هؤلاءِ المعتقلين سيكونونَ جزءًا من بناءِ أوطانِهم، ولن يُشكّلوا خطرًا على الأمن داخلَ بلدانِهم ولا على البلدانِ الأخرى، وخاصّةً الولاياتِ المتّحدة”.
على الضفّةِ المقابلة، أصدر النائبُ جو ويلسون موقفًا قال فيه، “تحدّثتُ إلى سجناءَ سياسيّين سوريّين داخلَ سجنِ روميّة في لبنان، سُجِنوا على يدِ “حزبِ الله” لمجرّدِ معارضتِهم نظامَ الأسد، أدعو حكومتَيِ لبنان وسوريا إلى العملِ سريعًا على آليّةٍ لإعادةِ السجناءِ السياسيّين السّوريّين إلى سوريا بسرعة، كما يجب على لبنان أن يفي بوعودِه بنزعِ سلاحِ “حزبِ الله” قبل نهايةِ العام”. ووفقَ معلوماتِ “المدن”، بدا ويلسون متأثّرًا بشهادةِ الموقوف، وأكّد أنّه سيرفعُ القضيّة إلى الرّئيسِ الأميركيّ دونالد ترامب، وإلى المبعوثِ الأميركيّ توم باراك، وأنّه سيواصلُ الضّغطَ لإيجادِ مخرجٍ لهذه القضيّةِ الشّائكة.
والحالُ فإنّ ملفَّ الموقوفين السّوريّين في لبنان تحوّل، منذ العامين الماضيين، من عنوانٍ حقوقيٍّ صرفٍ إلى ورقةِ تجاذبٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ داخليٍّ وخارجيّ، أمّا الضّغوطُ داخلَ السجون فتَصاعدت على شكلِ محاولاتِ انتحارٍ وإضراباتٍ عن الطّعام رفضًا لأيّ تسليمٍ قسريٍّ إلى سوريا، وسطَ غيابِ ضماناتٍ قضائيّةٍ واضحةٍ بعد العودة، وهناك كتلةٌ كبيرةٌ من الموقوفين السّوريّين داخلَ سجنِ روميّة وسواه، في ظلّ اكتظاظٍ مزمنٍ وتردٍّ في الخدماتِ الصحيّة، ما يجعلُ الملفَّ عبئًا إنسانيًّا مباشرًا على السُّلطاتِ اللّبنانيّة، ويرتبطُ ذلك بمشكلاتٍ أوسعَ تتعلّقُ بطولِ التوقيفاتِ الاحتياطيّة، وتهالكِ البنيةِ التحتيّة للسجون، وصعوبةِ النّفاذِ إلى الرّعايةِ الطّبيّةِ المنتظمة.
على المستوى الرّسميّ، عاد النّقاشُ بين بيروت ودمشق حول آليّاتِ معالجةِ الملفّ، وتدورُ الطّروحاتُ المطروحةُ حول ثلاثةِ مساراتٍ رئيسيّة، تسليمٌ مباشرٌ إلى السُّلطاتِ السّوريّة، تسويةٌ أو عفوٌ خاصّ، أو مسارٌ قضائيٌّ داخليٌّ بمواصفاتٍ استثنائيّةٍ تُراعي مبادئَ العدالةِ وضماناتِ عدمِ الإعادةِ القسريّة، ولكلّ خيارٍ كلفةٌ سياسيّةٌ وقانونيّةٌ على الحكومةِ اللّبنانيّة وعلاقاتِها الخارجيّة.
في الدّاخل، تظهرُ انقساماتٌ بين مقاربةٍ أمنيّةٍ تُقدِّم أولويةَ “الاستقرار”، وتضغطُ نحو إقفالِ الملفِّ سريعًا، ومقاربةٍ حقوقيّةٍ تُطالِبُ بضماناتٍ قضائيّةٍ وأمميّةٍ قبل أيّ تسليم، وتشدّدُ على ظروفِ الاحتجازِ والاكتظاظِ والمعاييرِ الطّبيّة، وهذه الهوّةُ تنعكسُ على الشارع عبرَ تحرّكاتٍ دوريّةٍ لعائلاتِ الموقوفين ومجموعاتٍ حقوقيّة.
خارجيًّا، يتقاطعُ الملفُّ مع مسارِ العلاقاتِ اللّبنانيّة–السّوريّة، ومع رسائلَ أميركيّةٍ وأوروبيّةٍ تتعلّقُ بسيادةِ القانونِ وحقوقِ الإنسان، ومع سجالٍ أوسعَ حول دورِ القوى المسلّحةِ غيرِ الرّسميّة وتأثيرِها على القراراتِ القضائيّةِ والأمنيّة، ويمثّل سجنُ روميّة بؤرةَ اختبارٍ لصدقيّةِ أيّ تفاهماتٍ سياسيّةٍ تُعلَن بين العواصمِ المعنيّة.
سجين سوري في رومية لنائب أميركي: حزب الله اعتقلنا .




