روائح كريهة تستقبل القادمين إلى لبنان وتودع المغادرين كأنها تود أن تطبع أثرها على حواسهم وفي أذهانهم. تلك الروائح النتنة المنبعثة من محيط المطار تختصر مشاكل لبنان البيئية والإدارية والصحية كما الاجتماعية والمالية وتعكس التخبط الذي تعيشه الحكومة اللبنانية في التنسيق بين مختلف إداراتها واعتماد الحزم المطلوب للتعامل مع مشاكل البلد. روائح مزمنة تتسلل من محيط المطار إلى البلدات المجاورة تخنق الأجواء وتشوه الانطباع الأول عن لبنان ولا تجد لها حلًا جذريًا حتى الآن .
الحكومة صعب عليها أن تكمّ أنفها عن الروائح المنبعثة من محيط المطار ولا أن تصم آذانها عن شكاوى المراجع السياحية والبيئية وشكوى شركات الطيران بخصوص هذه المشكلة، فخصصت في الرابع عشر من شهر تموز المنصرم جلسة لمجلس الوزراء تبنت فيها مقررات الاجتماع الذي عقد برئاسة الرئيس نواف سلام أواخر حزيران في السراي الحكومي و خُصّص لمعالجة أزمة الروائح الكريهة المنبعثة من محيط مطار رفيق الحريري الدولي والشويفات والمناطق المجاورة. تألفت على أثر ذلك لجنة برئاسة محافظ جبل لبنان محمد مكاوي ضمت وزارات الأشغال والزراعة والصحة والبيئة والطاقة إضافة الى مجلس الإنماء والإعمار واتحاد بلديات الضاحية الجنوبية وبلدية الشويفات، في محاولة لإيجاد الحلول والتشدّد في تطبيق الشروط الصحية والبيئية الكفيلة بالحفاظ على الصحة والسلامة العامة .
اللجنة المذكورة عقدت حتى اليوم ثلاثة اجتماعات لدراسة مصادر الروائح. وتبيّن نتيجة الجولات التفقدية على الأرض وجود نوعين من مصادر الرائحة النتنة. الأول المسالخ والمزارع المتواجدة على طريق نفق المطار ويبلغ عددها حوالى 13 مزرعة ومسلخ غير مسيّجة بجدران تحد من انتقال روائح الروث. والثاني مياه الصرف الصحي في حي السلم وصحراء الشويفات، حيث لا بنى تحتية في هذه المنطقة التي بنيت عشوائيًا وعبر التعدي على الأملاك الخاصة والعامة ولا مجاري صرف صحي لها بل تصب مياهها الآسنة في نهر الغدير .
نهر الغدير مجرور مفتوح
نهر الغدير لم يعد مجرًى مائيًا بل تحول إلى نهر من النفايات والبقايا العضوية ومصرف للمياه الآسنة خاصة في فصل الصيف حين تجف مياهه ويتحول إلى مجرور عملاق مفتوح في الهواء الطلق. في العام 2018 تم إنشاء مجرى في نهر الغدير للصرف الصحي انطلاقًا من كفرشيما وصولًا إلى ما يعرف بجسر الأرامل في حي السلم وكان مقدرًا أن يتم وصل المجاري المنزلية عليه، لكن هذا الوصل لم ينجز وبقيت مجارير البنايات المخالفة غير المرخصة تصب في النهر. ويقول أهل المنطقة إن النهر يتعثر عند جسر الأرامل ويضيق فتطوف مياهه هناك نتيجة ما يرمى فيه من نفايات. وتكفي مشاهدة بعض الصور لمجرى نهر الغدير لتتأكد من أنه تحول إلى مكب مفتوح ليس فقط للنفايات المنزلية بل لمخلفات المسالخ وبقاياها العضوية مع ما يعنيه ذلك من روائح وجراثيم وتلوث.
بلدية الشويفات المعني الأساسي في المنطقة، تبدو مكبلة الأيدي نتيجة الوضع المالي المعروف للبلديات ونتيجة الأمر الواقع في المنطقة الذي يمنع أي تحرك أو محاولة لضبط التعديات والمخالفات .
في جولة مع هشام الريشاني رئيس اللجنة الإعلامية في بلدية الشويفات وأحد ممثلي البلدية في اللجنة الخاصة، تعمقنا أكثر في المشاكل المتشعبة التي تتضافر كلها لبث الروائح الكريهة في الأجواء. فالمنطقة الواقعة بين حي السلم وصحراء الشويفات والعمروسية هي منطقة منخفضة تصب فيها كل المجاري المائية المنحدرة من المناطق العالية مثل كفرشيما وبسابا وسواها وتصبح فيها راكدة ومع ما يصب فيها من مياه آسنة تصبح عرضة للتخمر والبكتيريا. وأفضل مثال على ذلك إحدى قنوات مياه الأمطار التي تنطلق من نقطة “البيبسي كولا” حتى حي السلم والتي تحولت إلى مصرّف لمجارير البنايات الواقعة على جانبيها بدل أن تكون مجرى أمطار. هذه القناة المقفلة تسير بمحاذاة نفق المطار وفيها فتحات تهوئة كل 30 مترًا. نتيجة تخمر المياه الآسنة داخلها تتكون البكتيريا وتفوح الروائح التي تخرج من فتحات التهوئة وتنتشر في محيط المطار.
في ما مضى أنشئت محطة العمروسية لتكون معملًا لفرز النفايات ومحطة لتكرير المياه، ولكنها اليوم تعمل فقط على دفع المياه الآسنة نحو البحر بدل أن تعمل على تكريرها. فالمحطة ما زالت عند المستوى الأول ولم يتم إنجاز المستوى الثاني الذي يسمح بتكرير المياه المبتذلة.
“زبل” الأبقار يلوث أجواء المطار
من جهة أخرى تشكل المسالخ ومزارع الأبقار المصدر الثاني للرائحة وبحسب ما يقوله سمير سكاف رئيس جمعية “غرين غلوب” والعضو المراقب في الأمم المتحدة في البيئة هي الأكثر تأثيراً على المطار .
الروائح الكريهة تنبعث من حوالى 15 مزرعة بقر وماشية ومسالخ (ومشاريع دواجن) في محيط مناطق الشويفات وخلده، يشرف معظمها على مطار رفيق الحريري الدولي، ويفصل بينها وبين المطار، أحيانًا، طريق بعرض حوالى 10 أمتار فقط. ويمكن رؤية بعض من نفاياتها ومن دماء المسالخ في مجرى نهر الغدير. والغريب أن هذه المزارع التي تضم آلاف رؤوس الماشية مع سوادها الذي يغطي أراضيها، لا جدران لها وبالتالي بإمكان الرياح الخفيفة أن تنقل روائح روث الماشية إلى المطار وإلى السياح والمسافرين وإلى كل من يمر بجانب المطار .
معظم هذه المزارع تم إنشاؤها بعد إقفال مسلخ بيروت المركزي، وهي في غالبيتها وفق ما عرفنا مزارع غير مرخصة كانت مجرد مزارب للأبقار تحولت إلى مسالخ لا تتبع أية معايير بيئية. وقد تدخلت مؤخرًا وزارات البيئة والزراعة والصحة لتشديد الرقابة عليها ودفعها للعمل وفق الشروط البيئية، لكن يبدو أن لا أحد قادر على إقفال هذه المزارع أو نقلها باتجاه مناطق بعيدة كونها محمية من قوى الأمر الواقع. ويعمل أصحاب هذه المزارع كما علمنا على فلش “زبل” الأبقار في الخارج لتجفيفه وبيعه للمزارعين كسماد عضوي وهو ما يؤدي إلى تصاعد روائح كريهة جدًا تكاد لا تحتمل يشكو منها كل أهالي المنطقة. وحتى الآن كل محاولات إبعاد المسالخ عن المنطقة لم تلق التجاوب المطلوب.
وإلى مصادر الروائح هذه يأتي مطمر “الكوستا برافا” ليشكل تتويجًا كريهًا لكل الأسباب السابقة. فحركة النفايات العضوية فيه وإليه وفق ما يؤكد سكاف تتسبب بالكثير من الروائح الكريهة نتيجة العصارات التي تصب في البحر أو تتبخر في الجو أو تتخمر في أرضه. كما إن العمل في الوحدتين الأخيرتين فيه أي الثالثة والرابعة وهما الأقرب إلى مدرج المطار يتسبب بالمزيد من هذه الروائح الكريهة. وحتى الآن لا حلول بيئية تذكر للمطمر بل يحكى عن إمكانية استقباله المزيد من النفايات في حال تم في المستقبل إقفال مطمر الجديدة.
أين الحلول؟
مصادر الروائح باتت معروفة وواضحة ولكن أين الحلول؟ هل الحلول الترقيعية تفي بالغرض أم أن المنطقة تحتاج إلى حلول جذرية تقضي على المشكلة من جذورها؟
حتى اليوم تبدو الحلول الجذرية غير ممكنة. فالمنطقة تحتاج الى إعادة تقييم شاملة وإيجاد حلول متكاملة. ففيما مضى أجريت دراسة لتنفيذ مشروع بنى تحتية في منطقة صحراء الشويفات وحي السلم والعمروسية، لكن المشروع لم يبصر النور ومن يومها ازداد العمران في المنطقة وتفاقمت مشكلة الصرف الصحي نتيجة الكثافة السكانية لا سيما بعد الحرب الأخيرة، حيث باتت المنطقة تنتج نفايات ومجارير أكثر. و اليوم باتت الدراسة بحاجة إلى تجديد لتواكب العمران المستجد والى تمويل لا يزال حتى اللحظة غير موجود. بلدية الشويفات تحاول بين الحين والآخر فتح المجارير هنا وهناك للتخفيف من حدة المشكلة كما يقوم المعنيون بتنظيف نهر الغدير لكن سرعان ما تعود الفوضى والنفايات إليه. فالمنطقة المكتظة لا تجد متنفسًا لقاذوراتها إلا النهر، والمنطقة المقفلة أمنيًا لا تسمح بتحركات جذرية.
لم تعد الروائح الكريهة في محيط مطار رفيق الحريري الدولي مشكلة مياه آسنة ومجارير وروث أبقار بل هي روائح تراكمات مستمرة للفوضى والعشوائية والوضع الأمني والسكاني للمنطقة. واليوم وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتحسين طريق المطار وتأهيل محيطه لا تزال الروائح الكريهة تشكل عائقًا أمام إبراز نتائج تلك التحسينات، وتؤثر سلباً على صورة لبنان وصحة مواطنيه.
تلوّث مؤذٍ
الروائح الكريهة ليست وحدها المشكلة بل تلوث الهواء الناتج عن مصادر الرائحة. ففي مشروع علمي للقياس والمراقبة أطلقته الجامعة الأميركية في بيروت تحت اسم SHIM (Smell Hazard Investigation for Mitigation) لرصد الروائح في العاصمة ومحيط المطار وقياس تركّز غازات مثل H₂S كبريت الهيدروجين السام والأمونيا بهدف إنشاء خريطة رقمية للروائح تمكّن الجهات الرسمية من تحديد مصادرها بدقة، أظهرت النتائج الأولية أن المنطقة الواقعة بين نهر الغدير والشويفات تُسجّل أعلى نسب لانبعاث الغازات الكبريتية، خصوصًا في فترات الحرارة المرتفعة وانخفاض حركة الهواء، ما يؤكّد أن المشكلة ليست طارئة بل هيكلية مرتبطة بضعف إدارة الصرف والنفايات في المنطقة. في المقابل، تحذر الجمعيات البيئية وناشطو المجتمع المدني من أن الروائح ليست مجرد إزعاج بل علامة على وجود ملوثات كيميائية وهي قناع شمّي لتلوث أعمق. فالمواد التي تتطاير في الجو تُسهم في تكوين الأوزون الأرضي وتزيد من خطر الأمراض التنفسية، ما يجعل القضية قضية صحة عامة قبل أن تكون قضية “انطباع سياحي”.
روائح المطار الكريهة تراكم للفوضى البيئية والاجتماعية والأمنية .






