“زرنا، سمير فرنجية وأنا، الصرح ليل 19 أيلول 2000. بعد اللقاء في الصالون الكبير اصطحبنا البطريرك نصرالله صفير إلى مكتبه الصغير. أطلعنا على نصّ النداء. اقترح سمير ربط المطالبة بانسحاب الجيش السوري بالانسحاب الإسرائيليّ الذي كان قد تحقّق قبل أشهر”. هذا ما رواه الدكتور فارس سعَيد في مقابلة خاصّة ضمن برنامج “بالأساس” الذي يُبَثّ على موقع “أساس”. أحدث النداء زلزالاً في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. طالت ارتداداته سوريا طبعاً. واستمرّت سنوات حتّى صدور القرار 1559 في 2004، وصولاً إلى ثورة الأرز بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005.
“بعدما خرجت إسرائيل، أفلم يحِن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائيّاً، عملاً باتّفاق الطائف؟”، بهذه الصيغة طالب البطريرك نصرالله صفير بانسحاب الجيش السوريّ. شدّد على ربط مطالبته باتّفاق الطائف الذي رعاه ودافع عنه وتحمّل بسببه الاضطهاد والإساءة من قبل حفنة من أولاده الموارنة قبل أن تُقدِم سلطة الوصاية على تهميش المسيحيّين واعتقال سمير جعجع، الذي ساهم أيضاً في إقرار “الطائف”.
يفيد مصدر مطّلع أنّ سمير فرنجيّة وضع نصّ مسوّدة النداء. بيد أنّ الدكتور سعَيد ينفي. وكذلك يفعل مرجع كنسيّ شارك في اجتماع المطارنة في 20 أيلول 2000. يؤكّد المرجع الكنسيّ أنّ “البطريرك صفير صاحب الفكرة. وهو الذي وضع نصّ النداء”.
عن توقيت الإعلان يقول المرجع الكنسيّ: “كنّا ننتظر الانسحاب الإسرائيليّ الذي كان يتّخذه السوريّ ذريعة للبقاء في لبنان”. بالتالي ما اقترحه سمير فرنجيّة على البطريرك من ربط بين الانسحاب الإسرائيليّ والانسحاب السوريّ هو في أساس النداء وتوقيته.
وفاة الأسد وقانون الانتخاب
توفّي حافظ الأسد، رجل سوريا القويّ، بعد شهر من الانسحاب الإسرائيليّ. ورثه ابنه بشّار (تمّوز 2000). لم يكن هذا الأخير قد تمكّن في الحكم بعد. ربّما ما حصل في سوريا شجّع البطريرك على إطلاق ندائه في أيلول 2000، عِلماً أنّ المرجع الكنسيّ ينفي الربط بين وفاة الأسد والنداء، ويقول “البطريرك صفير كان سيُطلق النداء، حتّى لو كان الأسد الأب على قيد الحياة”.
أطلق النداء بعد الانتخابات النيابيّة (تمّوز 2000) التي جرت على أساس قانون لم يكن عادلاً ولا متوازناً وجاء مفصّلاً على قياس شخصيّات ومرجعيّات وطوائف. لم يعتمد معياراً واحداً في تقسيم الدوائر الانتخابيّة. لذلك بدأ النداء “بالحديث عن حقيقة الانتخابات التي كان المسؤولون عن وضع قانونها أوّل من اعترف بفساد هذا القانون”، في إشارة إلى كلام رئيس الحكومة حينذاك سليم الحص الذي قال إنّه لم يعرف كيف أُقرّ القانون!
مرحلة جديدة
نداء 20 أيلول 2000 أسّس لمرحلة جديدة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. راحت تتشكّل معارضة للوجود السوريّ، توسّعت مع الوقت حتّى انفجرت ثورة في 14 آذار 2005 بعد شهر على اغتيال رفيق الحريري.
كانت بداية تلك المسيرة مع لقاء سيّدة الجبل. وهو لقاء ضمّ مسيحيّين ومسلمين غالبيّتهم شيعة كانوا أعضاء في المؤتمر الدائم للحوار الوطنيّ الذي أسّسه سمير فرنجية في عام 1993.
بعدها تأسّس “لقاء قرنة شهوان” في مطرانيّة أنطلياس برعاية المطران يوسف بشارة، راعي الأبرشيّة. كان الأخير قد كلّفه البطريرك صفير قبل أشهر إدارة حوار سياسيّ مسيحيّ في قانون الانتخاب. نجح يوسف بشارة في إدارة الحوار ونسج علاقات صداقة مع المشاركين فيه. يروي سعَيد أنّ سمير عبدالملك طرح على المطران فكرة تشكيل كيان سياسيّ لمتابعة النداء. وافق. “حملنا الفكرة إلى البطريرك صفير. فوافق بدوره”. هكذا تأسّس لقاء قرنة شهوان في 30 نيسان 2001، وأطلق وثيقته السياسيّة الأولى.
ديناميّة سياسيّة
أطلق نداء المطارنة ثمّ “لقاء قرنة شهوان” حركة سياسيّة كانت مفقودة خلال عقد من الوصاية السوريّة.
سوريّاً، دفع النداء بدمشق إلى إعادة النظر في إدارتها للملفّ اللبنانيّ وعلاقتها مع المسيحيّين. قام بشّار الأسد بسلسلة لقاءات مع شخصيّات سياسيّة ودينيّة مسيحيّة، تولّى الاتّصال بقسم منهم محسن دلول. ساهمت في انفتاح المسيحيّين على بشّار زيارة البابا يوحنّا بولس الثاني لسوريا في أيّار 2001، والتي رفض البطريرك صفير في حينه الذهاب إلى سوريا للقاء البابا.
أحدث النداء صدمة في الوسط السياسيّ اللبنانيّ منذ إعلانه. تلقّفه وليد جنبلاط فطالب المجلس النيابيّ بإعادة تموضع الجيش السوريّ كما جاء في اتّفاق الطائف. هدّده بالقتل بعض أزلام سوريا في لبنان. تريّث رفيق الحريري. أراد إعطاء فرصة لبشّار. راح إميل لحّود يخوّن من يطالب بالانسحاب السوريّ.
حاول نبيه برّي بحنكته السياسيّة استيعاب الموقف، فقام بزيارة بكركي. كان التمايز واضحاً بين موقفه وموقف البطريرك من الوجود السوري وربطه بالانسحاب الإسرائيليّ. بيد أنّ رئيس المجلس قطع الطريق على كلّ من تسوّل له نفسه الهجوم على البطريرك بالقول: “يجب ألّا ننسى أنّه لولا الحماية التي قدّمها غبطته شخصيّاً لموضوع “الطائف” لَما قام “الطائف”.
مصالحة الجبل
كانت مصالحة الجبل أوّل غيث نداء المطارنة الموارنة والحركة السياسيّة للقاء قرنة شهوان. في 2 آب 2001 قام البطريرك صفير بزيارة الجبل. حينها كان انتقال البطريرك من الصرح البطريركيّ حدثاً بحدّ ذاته. فهو الرجل الذي “يُزار ولا يزور”. من قصر المختارة تمّ إعلان المصالحة التاريخيّة بين الموارنة والدروز الذين تقاتلوا وحصلت بينهم مجازر منذ قرن ونصف (1840). سيتمسّك بها الطرفان. البطريرك بشارة الراعي الذي خلف صفير أكّدها مجدّداً. وجنبلاط أوصى بها نجله ووريثه السياسيّ تيمور.
أقلقت المصالحة دمشق والرئيس إميل لحّود. كانت حملة قمع غير مسبوقة بدأت قبل زيارة البطريرك ورافقتها. بلغت أوجها يوم 7 آب باعتقال عشرات الشباب في محيط قصر العدل. بين المعتقلين د. توفيق الهنديّ، وهو أحد مؤسّسي قرنة شهوان ومقرّب من البطريرك صفير، والقياديَّان في “القوّات اللبنانيّة” إيلي كيروز وسلمان سماحة، إلى جانب قياديَّين من “التيّار الوطني الحرّ”، بينهم جبران باسيل. وكان باسيل نشر عبر حسابه على “إكس” تغريدة في ذكرى 7 آب، قال فيها: “ناضلنا، انحبسنا، صمدنا بـ 7 آب حتى تحرّرنا من الوصاية”.
كانت الرسالة واضحة للبطريرك و”القوّات اللبنانيّة” التي بدأت استعادة نشاطها السياسيّ ونظّمت في أيلول 2000 قدّاساً حاشداً للشهداء في سيّدة إيليج، المقرّ التاريخيّ للبطريرك المارونيّ.
ما قام به النظام الأمنيّ اللبنانيّ – السوريّ زاد البطريرك صلابة. كان يُدرك أنّ كلّ محتلّ يأتي ويعبر. وكان يعي أنّ أسلافه صمدوا في هذه الأرض منذ 1400 عام بصلابة الموقف. بالفعل زالت الوصاية بعد خمس سنوات على النداء. بعد عشرين عاماً سقط نظام الأسد. بيد أنّ لبنان لا يزال يعاني من تداعيات سياساته. أبرزها سلاح “الحزب” الذي استثناه من حلّ الميليشيات المذكور في اتّفاق الطائف. وهذا ما يحاول أن يُصلحه العهد الجديد.