في تطوّر جديد يعيد فتح واحدٍ من أكثر الملفّات حساسيّة على خطّ العلاقة بين بيروت و”قسد”، برز خلال الأيّام الماضية تحرّك لافت في قضيّة عائلات اللبنانيّين الموقوفين داخل “مخيّم الهول” الخاضع لإدارة قوّات سوريا الديمقراطيّة… فيما يبدو أنّ دمشق ترفض تجاوزها وتفضّل أن تكون لها المرجعيّة في هذا الملفّ.
شهد يوم الخميس في 30 تشرين الثاني لقاءً رسميّاً في بيروت جمع المدير العامّ للأمن العامّ اللبناني اللواء حسن شقير بوفد من “قسد”، في خطوة تُعدّ الأبرز منذ سنوات في هذا الملفّ الشائك.
ضمّ الوفد كلّاً من مدير جهاز الاستخبارات “قسد” وضابطاً مساعداً، إلى جانب ممثّل “الإدارة الذاتيّة” في لبنان عبد السلام أحمد. تركّز البحث على المطلب اللبنانيّ المتعلّق بإعادة النساء اللبنانيّات المتزوّجات من عناصر تنظيم “الدولة” وأطفالهنّ الذين يبلغ عددهم 22 طفلاً، إذ إنّ أزواجهنّ من عناصر التنظيم الذين قُتل معظمهم خلال سنوات الحرب.
تعيش هؤلاء النسوة، ومعهنّ أطفالهنّ، في رحلة طويلة من المعاناة والمآسي داخل المخيّم، في ظلّ غياب الرعاية الطبّيّة والاجتماعيّة، وحرمانهنّ من أبسط مقوّمات العيش.
محاولات سابقة وتعقيدات إنسانيّة
يُذكر أنّ هذه القضيّة ليست جديدة، إذ تعود جذورها إلى عهد المدير العامّ الأسبق للأمن العامّ اللواء عبّاس إبراهيم، الذي كان قد بادر إلى فتح قنوات تواصل أوّليّة مع “قسد” بناءً على طلب من عائلات النساء الموقوفات، غير أنّ تلك الاتّصالات لم تُفضِ حينها إلى أيّ نتائج ملموسة. أمّا اليوم، ومع تجدّد اللقاءات، فيبدو أنّ هناك رغبة واضحة بإعادة إحياء المساعي لإيجاد مخرج إنسانيّ لهذا الملفّ المعقّد.
بحسب معلومات موقع “أساس”، فإنّ هناك توجّهاً دوليّاً واضحاً نحو تفكيك مخيّمات الاحتجاز التي تُعدّ قنابل موقوتة في الشمال الشرقيّ السوريّ، وعلى رأسها “مخيّم الهول”. بات ينظر المجتمع الدوليّ إلى هذه المخيّمات باعتبارها بيئة خصبة لإعادة إنتاج الفكر المتطرّف، بعدما تحوّلت إلى مصدرٍ لتجنيد وتغذية التطرّف بين الأطفال والنساء على حدّ سواء.
إشكاليّة الهويّة وفحوصات الـDNA
تُظهر المعلومات أنّ جزءاً من تعقيدات الملفّ يرتبط بالهويّة، إذ يوجد عدد من الأطفال المولودين داخل المخيّم من آباء مجهولي الهويّة، وهو ما يستدعي إجراء فحوصات DNA لتحديد جنسيّاتهم بدقّة، ومعرفة ما إذا كانوا لبنانيّين أم لا.
إلى ذلك تبرز إشكاليّة إضافيّة تتعلّق ببعض النساء اللبنانيّات اللواتي يرفضن العودة إلى لبنان، وهو ما يجعل الإعادة أكثر تعقيداً من أن تُحسم بقرارٍ سياسيّ أو إنسانيّ بسيط.
على الرغم من هذه التحدّيات، يبدو أنّ الأمن العامّ اللبناني يسعى بخطوات محسوبة إلى إعادة تحريك هذا الملفّ بالتنسيق مع الجهات المعنيّة في “قسد” ومع الأطراف الدوليّة، في محاولةٍ للوصول إلى تسوية تراعي البعد الإنسانيّ، من دون إغفال الهواجس الأمنيّة التي تثيرها عودة هؤلاء النساء والأطفال إلى لبنان.
الموقف السّوريّ: دمشق تريد أن تكون المرجعيّة
حسب معلومات موقع “أساس”، تبرز أيضاً إشكاليّة تتعلّق بالموقف السوريّ الرسميّ، إذ تُبدي الحكومة السوريّة، ولا سيّما في ظلّ التعاون المتجدّد مع بيروت، رغبةً في أن يُعالج هذا الملفّ عبرها مباشرةً لا عبر “قسد”. تريد دمشق أن تكون الحلقة الأساسيّة في أيّ مسارٍ تفاوضيّ، بحيث ينتقل التنسيق من الحكومة اللبنانيّة إلى السوريّة، ثمّ إلى “قسد”، لا العكس.
ترى السلطات السوريّة أنّ تجاوزها في هذا الملفّ يمنح “قسد” شرعيّة ميدانيّة لا تعترف بها رسميّاً، وهو ما يجعل مسار الحلّ أكثر تشابكاً بين الحسابات الأمنيّة والسياسيّة.
يقول مصدر أمنيّ لـ”أساس” إنّ لبنان يفضّل التريّث إلى حين تنفيذ الاتّفاق بين الرئيس السوريّ أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، القاضي بعودة الفصائل الكرديّة إلى كنف الدولة السوريّة. سيمنح نجاح هذا المسار بيروت هامشاً أوسع للتحرّك في ملفّ العائلات اللبنانيّة داخل “مخيّم الهول”، إذ ستمكّنها معالجته عبر القنوات الرسميّة السوريّة من تجنّب أيّ احتكاك مباشر أو حسّاس مع دمشق.
كشفت إدارة مخيّم “الهول” في شمال شرقي سوريا عن أحدث إحصاءاتها، مشيرةً إلى أنّ عدد القاطنين في المخيّم بلغ 25,241 شخصاً يتوزّعون على 7,125 عائلة من جنسيّات متعدّدة.
يشكّل السوريّون النسبة الكبرى، إذ يبلغ عددهم 14,955 نازحاً موزّعين على 4,123 عائلة، فيما يضمّ المخيّم 4,007 عراقيّين ضمن 1,131 عائلة. أمّا القسم الثالث فيتكوّن من 6,279 شخصاً من عائلات مقاتلي تنظيم “الدولة”، ينتمون إلى 1,871 عائلة، وهو ما يعكس استمرار تعقيدات الملفّ الأمنيّ والإنسانيّ داخل هذا المخيّم الذي يُعدّ الأخطر في المنطقة.
يقول مصدر دبلوماسيّ لـ”أساس” إنّ هذا الملفّ، الذي امتدّ لسنوات، تحوّل من قضيّة إنسانيّة إلى عبء أمنيّ مفتوح على احتمالات التطرّف والانفجار. ظروف الاحتجاز القاسية داخل “مخيّم الهول” لم تعد تحتمل مزيداً من الانتظار، فيما تبقى مسؤوليّة الدولة اللبنانيّة التحرّك لاستعادة نسائها وأطفالها وإعادة تأهيلهم، قبل أن يتحوّل الإهمال إلى خطرٍ عابرٍ للحدود. عددهم محدود ويمكن احتواؤه بسهولة، لكنّ كلفة تجاهلهم قد تكون باهظة على المدى الطويل.
سنوات من الوجع والإهمال
يعيش أهالي النساء والأطفال اللبنانيّين المحتجزين في “مخيّم الهول” منذ سنوات حالة من الوجع وسط صمتٍ رسميّ طال أمده. إنّها مأساة إنسانيّة تتجدّد كلّ يوم، فيما يكبر الأطفال في بيئة قاسية تتشكّل فيها أفكارهم بعيداً عن مجتمعهم الطبيعيّ في لبنان. وبينما بادرت دولٌ أخرى إلى استعادة مواطنيها، ما تزال الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة تتعامل مع هذا الملفّ بثقلٍ وبطء، تاركةً عائلاتٍ بأكملها رهينة الانتظار.
يبقى البعد الإنساني بين تعقيدات الأمن والسياسة هو الأوضح والأكثر إلحاحاً. لا يحتمل المماطلة ملفّ عائلات اللبنانيّين في “مخيّم الهول”، ولا يمكن تركه رهينة التجاذبات الإقليميّة. وحده القرار الجريء بإنهاء هذا الفصل الطويل من المعاناة كفيلٌ بإغلاق واحدة من أكثر صفحات الحرب السوريّة ظلمة، ووضع حدٍّ لأوجاعٍ طالت كثيراً.
دمشق وملفّ عائلات “الهول” اللبنانية: نحن المرجعيّة .




