خاص- حين يصمت الشابّ… وتهبّ الحياةُ هزيمة: ارتفاع الانتحارات في لبنان من ٢٠١٩ حتى ٢٠٢٥

في بلدٍ يترنّح بين أزماتٍ لا تنتهي، من الانهيار الاقتصادي إلى الانقسام السياسي وتآكل الثقة بالمستقبل، يتكشّف وجهٌ آخر أكثر خطورة وصمتاً: ارتفاع حالات الانتحار، ولا سيما بين فئة الشباب. إنها الحرب غير المعلنة التي يخوضها اللبناني ضد نفسه، حين يعجز عن احتمال واقعٍ لم يعد يُحتمل.

أرقامٌ ترسم اتجاهاً مقلقاً

تُظهر الأرقام المتوافرة من مصادر دولية وإعلامية أنّ ظاهرة الانتحار في لبنان تسلك منحى تصاعدياً منذ عام ٢٠١٩. فبحسب موقع The Global Economy، سجّل لبنان في ذلك العام معدل وفيات بالانتحار بلغ ٢،٨ لكل مئة ألف نسمة، وهو من أعلى المعدلات في العقد الأخير.

وفي بيانات البنك الدولي المنشورة عبر موقع Trading Economics، سُجّل عام ٢٠٢١ معدل ٠،٧ لكل مئة ألف، غير أن الباحثين يشيرون إلى أن هذا الانخفاض لا يعكس تراجعاً حقيقياً في الحالات بقدر ما يعكس ضعفاً في التسجيل الرسمي وغياب قاعدة بيانات دقيقة.

عام ٢٠٢٣ مثّل منعطفاً جديداً في المشهد. فقد نشر موقع The New Arab تقريراً يؤكد تسجيل ١٦٨ حالة انتحار في لبنان خلال ذلك العام، مقابل ١٣٨ حالة في ٢٠٢٢، أي بزيادة تفوق ٢١ في المئة. وهي أرقام صادمة في بلدٍ يعيش أزمة وجودية، لكنها تبقى، وفق خبراء، أدنى من الواقع بسبب امتناع الكثير من العائلات عن التبليغ نتيجة الوصمة الاجتماعية والخوف من الفضيحة.

جيلٌ تائه بين الهجرة والانكسار

اللافت أنّ معظم الدراسات الحديثة تجمع على أنّ الفئة العمرية الأكثر تأثراً تقع بين ١٥ و٢٩ عاماً، أي جيل الشباب الذي يُفترض أن يكون عماد الغد. دراسة منشورة عبر Elgar Online عام ٢٠٢٣ وصفت هذه الفئة بأنها “الأكثر هشاشة في مجتمعٍ مثقلٍ بالضغوط النفسية والاقتصادية والسياسية”.

فهؤلاء الذين كبروا في ظلّ الحروب الصغيرة والانهيارات الكبرى، يجدون أنفسهم اليوم أمام وطنٍ ضاق بهم، لا عمل فيه ولا أفق، ولا حتى ثقة بقدرة أحد على الإصلاح.

الانتحار في لبنان لم يعد يُقرأ كحالة فردية معزولة، بل كنتيجةٍ مباشرة لواقعٍ يختنق فيه الشباب بين مطرقة العجز وسندان اللامبالاة. البطالة، الفقر، فقدان الطبقة الوسطى، تراجع الخدمات العامة، والهجرة الجماعية، جميعها تُغذّي شعوراً متراكماً باللاجدوى. يضاف إلى ذلك انهيار البنية النفسية للمجتمع اللبناني منذ تفجير الرابع من آب، وما تبعه من أزمات مالية ومعيشية، جعلت اللبناني يعيش في دوّامة صدمات متواصلة.

استراتيجيات على الورق… وصمت في الميدان

ورغم كل ذلك، تبدو الدولة غائبة إلا من بعض الخطط الورقية. ففي عام ٢٠٢٤ أطلقت وزارة الصحة العامة “الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية ٢٠٢٤–٢٠٣٠”، التي تتحدث عن تعزيز الدعم النفسي والحد من الانتحار، إلا أنّ التنفيذ لا يزال محدوداً جداً.

لا إحصاءات رسمية حديثة تصدر بشكل دوري، ولا برامج فعلية في الجامعات والمدارس، ولا خطوط ساخنة فاعلة على مستوى وطني. أما المبادرات، فتبقى في معظمها فردية أو من صنع منظمات غير حكومية تعمل بإمكانات محدودة.

في المقابل، يحذّر خبراء علم النفس من أن استمرار هذا التدهور الاجتماعي والاقتصادي من دون تدخل مؤسساتي فعّال سيؤدي إلى مزيد من الانهيار النفسي، خصوصاً لدى الشباب. فالوطن الذي يُطفئ أحلام شبابه يُشعل فيهم رغبة الرحيل، سواء إلى الخارج أو إلى المجهول. والسكوت عن هذا الواقع هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة.

بلدٌ يُسكت شبابه

الانتحار في لبنان اليوم ليس مجرد رقمٍ في تقرير، بل هو مرآة لبلدٍ فقد قدرته على حماية شبابه من اليأس. عندما يختار الشاب أن يصمت إلى الأبد، فإنّ صمته لا يُعبّر فقط عن ألمه الشخصي، بل عن عجز دولة ومجتمع عن الإصغاء إليه.

فهل يسمع أحد هذا الصمت قبل أن يتحوّل إلى صرخةٍ جماعية لا تُسمع إلا بعد فوات الأوان؟

خاص- حين يصمت الشابّ… وتهبّ الحياةُ هزيمة: ارتفاع الانتحارات في لبنان من ٢٠١٩ حتى ٢٠٢٥ .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...