لا أحد يعرف ما إذا كانت التهديدات الإسرائيلية المتعاظمة للبنان في الأيّام الأخيرة هي تمهيد فعليّ لشنّ حرب واسعة جديدة، أو أنّها مجرّد تحمية لخوض مفاوضات دبلوماسية بهدف التوصّل إلى اتّفاق على إجراءات أمنية. فهناك في الحالتين تحليلات تبدو منطقية لاتّخاذ التطوّرات هذا المنحى أو ذاك.
ولكن القرار في هذا الشأن هو عمليّاً في يد إسرائيل لوحدها. وليس لبنان سوى المتلقّي، فيما تلعب الولايات المتّحدة دور الوسيط أحياناً ودور الداعم لإسرائيل في كلّ الأحيان. ولا شيء واضحاً حول ما تحضّر له إسرائيل للبنان، سوى أنّها لن تنسحب من النقاط المحتلّة، ولن تقبل بأيّ حلّ لا يبدأ بسحب سلاح “حزب الله”.
لذلك، فإنّ الأمر الأكيد أنّ الحرب التي أطلقتها تلّ أبيب بعد هجوم 7 تشرين من أجل تغيير التوازنات في الشرق الأوسط مستمرّة. ولكنّ الأشكال التي تتّخذها قد تختلف بين مرحلة وأخرى و بين مكان وآخر.
ففي غزّة، توقّفت الأمور الآن عند اتّفاق وقف النار. لكنّه اتّفاق شديد الهشاشة، وقد تخدم صلاحيّته المدّة الكافية لتسليم جثث الرهائن الإسرائيليين المتبقّية مع “حماس”. فالمرحلة الثانية من الاتّفاق غير واضحة المعالم. ومن المحتمل جدّاً أن لا تطبّق، وأن يعود الوضع إلى ما كان عليه.
امّا بالنسبة إلى لبنان، فتقول مصادر دبلوماسية إنّ الأجواء مشوبة بالغموض. ففيما توحي كلّ التصريحات الإسرائيلية بأنّ الحرب وشيكة، فإنّ الواقع على الأرض قد يكون مغايراً. وتعتبر المصادر أنّ نتنياهو ليس مستعجلاً لشنّ حرب واسعة على “الحزب” في المدى القريب. فالطريقة التي تعتمدها إسرائيل الآن عبر شنّ غارات مستمرّة على مواقع وأهداف تتعلّق بالسلاح أو بالبنى التحتية للإعمار أو باغتيال قياديين، تؤمّن لها استمرار قوّة “الحزب” تحت سقف معيّن لا يشكّل تهديداً مباشراً لها. فصحيح أنّ المسؤولين الإسرائيليين يهوّلون بأنّ “الحزب” تمكّن من إدخال أسلحة جديدة ويحاول إعادة التعافي، لكن هذا الوضع يبقى تحت السقف المضبوط. وبالتالي يمكن الاستمرار في حالة الاستنزاف الحالية على الساحة اللبنانية لوقت طويل.
أمّا بالنسبة إلى موضوع التفاوض، الذي تحدّث عنه الرئيس جوزف عون، وعاد بالأمس ليؤكّد أن “لا خيار أمام لبنان سوى خيار التفاوض”، فليس الطريق معبّدة أمامه. فالإسرائيليون غير مهتمّين به، إلّا إذا بدأ بسحب السلاح أوّلاً. وبعدها قد يبحثون في شكل الترتيبات الأمنية، التي يريدون أن تنصّ على منطقة عازلة، والتي يبدو أنّها صارت من الثوابت لدى إسرائيل، سواء في لبنان أو غزّة أو سوريا.
وفي المقابل، على “حزب الله” أن يوافق على مسار التفاوض بالشروط الإسرائيلية، حتّى توافق تلّ أبيب بدورها. أمّا استعمال التفاوض كورقة لكسب الوقت فغير وارد في الأجندة الإسرائيلية. لذا، فإنّ بنيامين نتنياهو أبلغ جميع الموفدين الأميركيين الذين تحدّثوا معه عن الموضوع، أنّه غير مهتمّ بالمفاوضات، إذا لم تكن ستفضي إلى سحب كامل السلاح من أيدي “حزب الله”، الذي يُجري الآن نقاشات مكثّفة حول إمكان قبوله بمبدأ التفاوض مع إسرائيل، الذي كان حصل سابقاً إبّان ترسيم الحدود البحرية. فمن مصلحة “الحزب” إطلاق مفاوضات غير مباشرة، تعيده إلى صلب اللعبة الإقليمية، وتسمح له بالمساومات، حسب ما يعتقد. كما أنّ المفاوضات تجعله يختبئ أكثر فأكثر خلف الدولة اللبنانية. فيكون قادراً على تحميلها المسؤولية عندما يشاء، وفي الوقت عينه يمكنه قطف الثمار، إذا كان هناك من ثمار متبقّية بعد.
ومن هنا، فإنّ حديث الرئيس عون المتكرّر عن حتميّة التفاوض، ليس موضع رفض من جانب “الحزب”. ولكن أيّ تفاوض لن تكون له قيمة تنفيذية ما لم يدخل “الحزب” في صلبه. فهو الذي ما زال يرفض تسليم السلاح، وما زالت الدولة اللبنانية عاجزة عن سحبه بنفسها.
ولكن، موضوع التفاوض اللبناني الإسرائيلي واتّخاذ القرار في شأن السلاح، ليس محصوراً بلبنان. بل هو رهن ما تقرّره إيران، وما ترسله من توجيهات إلى “الحزب”. ولذا، فمن المحتمل أن تكون الخطّة الإسرائيلية المقبلة مركّزة على الملفّ الإيراني، لأنّ حلّه يسهّل كل الحلول الأخرى.
خاص- بين التفاوض أو الحرب: خيار الاستنزاف القاتل؟ .


															