لطالما مارس “حزب اللّه” سياسة “الإغراء والإغراق” في تعاطيه مع الدولة اللبنانية. يغرقها بسهام التخوين والخنوع إذا اقتربت من سلاحه، ويجاملها حين يجرّها إلى حروبه ومغامراته الحدودية. وبعد طلب رئيس الجمهورية جوزاف عون من قائد الجيش العماد رودولف هيكل التصدّي لأيّ توغل إسرائيلي في “الأراضي الجنوبية المحرّرة”، رفع “الحزب” وتيرة الغزل السياسي التي ينتهجها منذ فترة تجاه بعبدا. يدرك أن السلطة اللبنانية مأزومة بسبب سلاحه، وأن مماطلته في مساعدتها على حسم هذا الملف، تؤجّج الضغوط الدولية على الدولة، فيما تستغلّ إسرائيل ذلك لتكثيف خروقاتها.
ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل مواقع ثابتة أو متحركة يقول “حزب اللّه” إنها مدنية. حادثة بليدا، التي أسفرت عن مقتل موظف بلديّ، ليست سوى حلقة جديدة من مشهد أسود رسمته “حرب الإسناد”. فالاعتداء يُسجَّل في خانة الكباش المتبادل بين إسرائيل و “الممانعة”. لكن فاتورته تُدفع من دماء الجنوبيين واللبنانيين عمومًا، ومعهم الجيش، العالق بين نارين: خروقات “العدو” وعناد “الحزب”.
انطلاقًا من هذا الواقع، كشف مصدر مطّلع أن رئيس الجمهورية في وضعٍ لا يُحسد عليه، لكنه يتعامل بواقعية مع التحدّيات وموازين القوى. لا يريد توريط الجيش في مواجهة عسكرية لا قدرة له وللبنان على تحمّل تبعاتها، خصوصًا بعد الهزيمة الكبرى التي مني بها “حزب اللّه”، وبالتالي انهيار “منطق المقاومة” في التحرير والدفاع. وهذا ما يفسّر صدور القرار أو “الطلب” عن الرئيس شخصيًّا، وعدم دعوته المجلس الأعلى للدفاع للانعقاد. لماذا؟ لأن هذا النوع من المسائل يستوجب تحمّل الدولة والحكومة ضمنًا المسؤولية، لا بعبدا وحدها. بهذه المقاربة، أراد الرئيس تأكيد دور الجيش في الدفاع عن السيادة من جهة، مع الحرص على ضبط الإيقاع السياسي والعسكري والتخفيف من حدّة القرار من جهة أخرى، عبر حصر مهمّة الجيش في “المناطق المحرّرة”، لتفادي الانجرار إلى تصعيد أوسع، يستفيد منه “حزب اللّه” وإسرائيل معًا.
ومنعًا لاستغلال “الحزب” للحادثة والإيحاء بأن “الجيش والمقاومة في خندق واحد”، في استعادة لمعادلة “جيش، شعب ومقاومة”، كان لافتًا أمس، ردّ مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية على ما ورد في إحدى وسائل الإعلام التابعة لـ “حزب اللّه” والتي سمّاها بالاسم، نافيًا ما نقلته من مواقف منسوبة إلى رئيس الجمهورية، خلال لقائه قائد الجيش العماد رودولف هيكل، بعد الاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف بلدة بليدا الخميس.
في المقابل، يؤكّد المصدر، أن استمرار الدولة في سياسة المراوحة والتردّد حيال ملف سلاح “حزب اللّه”، والتنقل بحذر بين ألغامه، يقرّب ساعة الانفجار الكبير. فالحراك الدبلوماسي الكثيف بين بيروت وتل أبيب، خلافًا لما توحي به البيانات الرسميّة، يعكس عمق الأزمة. ولو كانت قضيّة السلاح تسلك طريق الحلّ فعليًا وبالوتيرة المطلوبة، لما شهدنا هذا الزخم العربي – الأميركي على خط الوساطات والتنبيهات. ويشير المصدر إلى أن زيارة مدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد، حملت رسائل بالغة الخطورة (بالإضافة إلى ملف التفاوض)، خاصة أنه سبقتها لقاءات في إسرائيل شملت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وجهاز “الشاباك”، قبل أن ينتقل إلى بيروت حيث التقى مسؤولين أمنيين في “حزب اللّه”.
وإذا كان غزل “الحزب” لبعبدا يغرق الدولة، فإن “إشادة” أورتاغوس بجهود الحكومة لسحب السلاح قبل نهاية العام، ليست سوى “مجاملة” مشروطة بالإنجاز. فالمهلة التي حدّدتها، تمثل نهاية فترة السماح واختبار الجدية. فإمّا أن تُفلِح الدولة في انتزاع القرار السيادي، أو ينجح “الحزب” في تفشيل المسار وإجهاض الفرصة الأخيرة.
حين يُغازل “الحزب” بعبدا يشدّ الدولة إلى الغرق .






