يعوّل لبنان الرسمي كثيراً على السفير الأميركي الجديد، اللبناني الأصل، ميشال عيسى، الذي كان مقرراً أن يتسلّم مهامّه الدبلوماسية في بيروت نهاية شهر تشرين الأول، وفق مصادر في وزارة الخارجية الأميركية. إلا أن آخر التحديثات تشير إلى أنه سيصل إلى لبنان في القسم الثاني من شهر تشرين الثاني؛ أي بعد عيد الشكر.
يتطلّع المسؤولون اللبنانيون إلى مرونة عيسى، لكونه لبنانياً يعرف تعقيدات المجتمع السياسي فيه وتناقضاته، لكنهم قد يُصابون بخيبة أمل، لأن مصادر مطّلعة في واشنطن تؤكد أن السفير الجديد يميني متطرّف، متأثّر بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وصديق قديم له. وقد كشفت هذه المصادر أنّ عيسى سيكون في لبنان بمنزلة طوني بلير في غزة، بمواقف متشدّدة من “حزب الله” وسلاحه، ويتمتّع بعلاقة قوية ومتينة بالمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، تحت إدارة وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي يعتبر أن لبنان يجب أن يكون في صلب اتفاقيات أبراهام، ويسعى إلى التفاوض المباشر بين لبنان وإسرائيل.
في المرحلة السابقة، تولّى توم بارّاك وأورتاغوس إدارة الملف اللبناني، وكان للموفدين مواقف صريحة، بل صادمة في محطّات عديدة خلال زياراتهما للبنان. هذا ما أفزع الطبقة الحاكمة التي تختبئ خلف سياسات مهادِنة تراعي الانقسامات الداخلية خوفاً من الانفجار. إلا أن بارّاك، خصوصاً في مواقفه الأخيرة، لم يتردّد في وصف لبنان بالدولة الفاشلة، موضحاً الأسباب من دون مواربة.
حقنة مورفين
وتؤكّد المصادر المطلعة في واشنطن أن عيسى لا يقلّ صراحة عن بارّاك، وكلاهما تربطهما علاقات ممتازة بالرئيس ترامب، وهما متأثران بسياساته التي لا تعرف المجاملة، بل تسمّي الأمور بأسمائها. ولا أحد يتوقّع من عيسى أن يُهادن أو يُمالق “حزب الله”، لأن شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في 7 تشرين الأول الفائت كانت صريحة جداً؛ إذ أعلن أن نزع سلاح “حزب الله” ليس خياراً، بل ضرورة. وتتوقّع هذه المصادر أن تكون بداية مهامه في بيروت قائمة على القوة والمساءلة لا على الاسترضاء.
هذه هي سياسة ترامب المناقِضة لنهج الديموقراطيين الذين يميلون إلى التسويات. فقد كان حريصاً، خلال لقاءاته بعيسى، وفق المصادر نفسها، على ألا يُفهم تعيينه كأنه “حقنة مورفين” للمسؤولين اللبنانيين كي يستمروا في المعالجات البطيئة. بل إن ولاء عيسى المعلن للولايات المتحدة، وتشديده على ذلك في مناسبات عدّة، يعني أنه سيستخدم أسلوب المساءلة والحزم كي لا تُستغلّ حسن النية الأميركية.
وتلفت المصادر إلى أنه عندما يختار الرئيس ترامب دبلوماسياً لمهمة معينة، لا يكون ذلك لأغراض احتفالية؛ بل للقتال. فهو يحرص على اختيار أشخاص مخلصين يحققون نتائج، مثل جاريد كوشنر وتوم بارّاك ومورغان أورتاغوس وميشال عيسى وستيف ويتكوف، يدركون أن الدبلوماسية، في جوهرها، تتمحور حول النفوذ. وتشير المصادر إلى أن عيسى يتحدّث اللغة نفسها: لغة الأرقام والشيكات والتفاوض، لأنه آتٍ من عالم الأعمال. وقد وصف ترامب ميشال عيسى بأنه “محارب” و”صديق”، وهما كلمتان يخصّ بهما من يثق بهم في المعارك، لا في التمثيل. فبإرساله عيسى إلى لبنان، يرسل شخصاً يشاركه حدسه، شخصاً يدرك أن الدبلوماسية من دون نفوذ ليست سوى مسرحية هزلية.
فنّ المماطلة والخداع
يأتي عيسى إلى لبنان بخلفية أن هذه الأرض أصبحت مكاناً تُمارَس فيه الألاعيب السياسية كفنّ، ويختبئ فيها الفساد وراء الابتسامات والبروتوكول. وهو يدرك جيداً، وفق المصادر، أن الطبقة السياسية اللبنانية تتقن فنّ المماطلة والخداع والتبعية، وتفتقر إلى الإرادة.
يصل عيسى إلى لبنان في مرحلة دقيقة، حيث تؤدي أورتاغوس دورها بدقة. وترى المصادر المطلعة أن التنسيق بين المسؤولين الأميركيين سيكون تامّاً، وأن العناوين التي سيُستكمل العمل عليها، بوتيرة أسرع، هي ربط المساعدات بنزع السلاح، والمواعيد النهائية بالإصلاح. وسيوضح عيسى أن واشنطن لم تعد تلعب لعبة الحوار التدريجي “المهذّب”. فعيسى وأورتاغوس لا يميلان إلى تلك الألفة التي يتلاشى معها الحزم؛ بل سيقدّمان نصائح جدّية بتسريع نزع السلاح، وإلا فإسرائيل ستتولّى المهمة، ولا شيء يُحلّ إلا بالتفاوض المباشر مع تل أبيب.
وتعتبر المصادر أن عيسى لن يمرّ بتلك “الاجتماعيات” التي اختبرها بارّاك في بداية مهمّته في لبنان؛ بل سيُكمل من حيث انتهى:”لبنان دولة فاشلة”، والحلّ بالتخلّص من دويلة السلاح التي تُفشل الدولة. وبالتالي، سيزيد عيسى جرعات الحزم تجاه المسؤولين اللبنانيين لتحريرهم من التردّد. فهو رجل أفعال لا أقوال. ومعه، ستتحوّل السفارة الأميركية في عوكر من شرفة مراقبة إلى مركز قيادة فعليّ.
مؤيد للتفاوض مع إسرائيل
لا تختلف نظرة عيسى إلى إيران و”الحزب” عن نظرة ترامب. وتؤكّد المصادر أن عيسى يعتبر أن “الحزب” لا ينتمي إلى لبنان؛ بل إلى إيران التي لا تكترث بما يحدث للشعب اللبناني. لذلك سيكون عيسى متشدّداً حيال “الحزب”، ومؤيداً بشدّة لانفتاح الحكومة اللبنانية على التفاوض مع إسرائيل، وهذا ما يلتقي فيه مع أورتاغوس. وسيدفع بلبنان إلى المشهد الجيوسياسي المتغيّر في المنطقة، مستفيداً من براعته في إدارة الأعمال التي تفوّق بها طوال مسيرته.
وتشير المصادر إلى أن عيسى لن يُخفي عن المسؤولين اللبنانيين أن التصعيد الإسرائيلي سيزداد كلّما تبيّن أن “الحزب” يستعيد قوّته العسكرية، وأنه سيكون أكثر استعجالاً من أورتاغوس في العمل على نزع سلاحه. فخبرته المالية والاقتصادية تضعه في موقع الداعم للدولة اللبنانية في مرحلة ما بعد السلاح، لتتعافى مالياً وتتابع مسيرة الإصلاح وإعادة الإعمار. وقد أكّد ذلك بقوله:”سأعمل على نحوٍ وثيق مع شركائنا الدوليين لتعزيز المساءلة المالية ودعم الانتعاش الاقتصادي والنمو على المدى الطويل”.
من الواضح أن عيسى يحبّ بلده الأم، لبنان، لكن ولاءه الأول والأخير هو للولايات المتحدة الأميركية. ولا شك أنه سيكون شخصية محورية في الحياة السياسية اللبنانية في المرحلة المقبلة. وليس معروفاً ما إذا كان وصوله إلى لبنان سيسبق التصعيد الإسرائيلي الواسع ضد “الحزب” أو يليه. إلا أن تسلّمه مهامّه سيكون في لحظة سياسية وعسكرية حساسة، فاصلة، وربما تاريخية في مسيرة هذا الوطن المعذّب.
تناغم عيسى وأورتاغوس… رأس حربة أميركية في لبنان! .


															

