انتقام برّاك والدولة الفاشلة

ليس غريبًا أن يتنقل توم برّاك بين حال الناقم وحال المنتقم بعد الإشادة بالمسؤولين في البداية. الغريب أن نستمر في خداع أنفسنا بالتصور أن موفدًا أميركيًا لبناني الأصل يمكن أن تدفعه العاطفة إلى السعي، لا لتغيير بل لتلطيف الموقف الأميركي الصارم، على قاعدة القول العربي الشهير: “اللهم لا نسألك رد الظلم بل اللطف فيه”. فالرجل الذي عيّنه صديقه وشريكه الرئيس دونالد ترامب سفيرًا في “بلاط” صديقه رجب طيب أردوغان وموفدًا إلى سوريا ولبنان ليس ديبلوماسيًا ولا خبرة لديه في شؤون سوريا ولبنان وإسرائيل المعقدة. وحين غضب في بداية مهمته دعا إلى إلحاق لبنان ببلاد الشام التي فقدت هي هويتها القومية في صراع الهويات الطائفية والإتنية والجهوية ولم تعد نفسها. في الإكثار من الكلام والظهور التلفزيوني، خلافًا للموفد الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب المتكتم، فإنه يقول الشيء وعكسه بين يوم وآخر، ويهرب بما لا يعرف أحيانًا.

وما كان خارج المألوف أن يعلن برّاك مؤخرًا بصراحة فجة أن “لبنان دولة فاشلة”. فهو يعمل على طريقة رئيسه وصديقه المقاول ترامب: إما صفقة وإما صفعة. والفارق، كما يقال، بين المرأة والدبلوماسي هو أن المرأة تقول “لا” بمعنى “يمكن”. ويمكن بمعنى “نعم” وإذا قالت “نعم” لا تكون امرأة. والدبلوماسي يقول “نعم” بمعنى يمكن، ويمكن بمعنى “لا”، وإذا قال “لا” لا يكون ديبلوماسيًا. والواضح أن براك خسر الصفقة التي جاء من أجلها: سحب السلاح من “حزب الله”، واتفاق بين لبنان وإسرائيل، وإصلاح الوضع المالي والمصرفي. وهذا فشل كبير له في نظر واشنطن، بحيث يلجأ إلى لوم المسؤولين الذين يرى أنهم خذلوه فلم يقدموا ما التزموه قبل الوصول إلى السلطة، ولا نفذوا ما قرروه كسلطة في مجلس الوزراء. وهم بالمقابل يشكون من أن براك خذلهم. فلا هو حصل من نتنياهو على ما يقهر به في بيروت، ولا تمكن من تأمين ضغط أميركي على إسرائيل لوقف الإعتداءات وخرق اتفاق وقف الأعمال العدائية، ولا استطاع تحقيق الحد الأدنى من وعوده حول الاستثمارات والمساعدات التي ستهبط على لبنان كالمطر أيام الجفاف.

لكن علينا الاعتراف بأن لبنان الذي وصل منذ سنوات إلى مرتبة الدولة الفاشلة لم يجد بعد من العمل ما يرقى إلى إخراجه من هذه المرتبة ووضعه في مسار الجهود المتكاملة لبناء مشروع الدولة الناجحة. فماذا تسمى الدولة التي لا تزال عاجزة على مدى ست سنوات عن إيجاد حل لأكبر مهمة وعملية سطو على المال العام والخاص عبر المافيا المالية والسياسية والميليشياوية التي ترفض الإصلاح الفعلي للوضع المصرفي وأزمة النظام المالي؟

ماذا نسمي دولة عاجزة عن سحب سلاح خارج الشرعية ورّط لبنان في حرب إسناد لغزة دمرت البلد ولا أمل في إعادة إعماره مع بقاء السلاح في يد “حزب الله” المرتبط بالحرس الثوري الإيراني والمؤمن بولاية الفقيه؟ ماذا نسمي دولة لا تستطيع فرض السيادة والسلطة على كل أراضيها، ولا تؤمن الخدمات الأساسية للمواطنين، ولا تقدم على سحب الأسلحة من كل المنظمات الفلسطينية في المخيمات كأنها ليست تابعة للسيادة اللبنانية، وكأن الإنهاء الحقيقي لعصابات المخدرات في المخيمات يحتاج إلى قرار دولي وجيش الصين؟ وماذا نسمي دولة تجعل من لبنان محطة انتظار الموفدين والأحداث وساحة للصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية والتي لبعضها شركاء محليون؟

وظيفة أي سلاح خارج الشرعية ومصلحته هما منع بناء دولة. وإذا كان “حزب الله” يتحدث عن نقاط ضعف يجب معالجتها ونقاط قوة يجب مراعاتها في مساره، فإن على المسؤولين الإنطلاق من كون استراتيجية “محور المقاومة” بقيادة إيران فشلت في حماية غزة ولبنان وإيران نفسها، ولا بد من استراتيجية عنوانها بناء الدولة الوطنية.

وقديمًا قال أرسطو:”الدولة جماعة مواطنين عاقلين أحرار لا جماعة مؤمنين”.

انتقام برّاك والدولة الفاشلة .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...