يدرس لبنان خياراته للتعامل مع كل الضغوط التي يتعرض لها لتجنب التصعيد العسكري الإسرائيلي. الاتصالات مفتوحة بين الرؤساء والمسؤولين للبحث عن صيغة تتيح تفادي المواجهة. ولكن، في المقابل، الشروط الإسرائيلية لا تنتهي. وكلما وافق لبنان على نقطة أو تقدّم خطوة، برزت أمامه شروط جديدة، أو رفعت إسرائيل سقف مطالبها أكثر. وتتركز الاتصالات على كيفية الدخول في المفاوضات المباشرة، وإمكانية رفع مستوى التمثيل أو ضم مدنيين الى لجنة الميكانيزم للمشاركة في التفاوض. فالمسؤولون توصلوا إلى موافقة مبدئية حول هذه النقطة، ولكن الأهم أن تترافق مع ضغوط أميركية جدية على إسرائيل لدفعها إلى وقف التصعيد.
جهات دولية أكثر تشدداً
أمام هذه الواقع تدخل جهات عديدة على خط التفاوض أو البحث عن دور. فبعد مصر، برزت زيارة وزير خارجية ألمانيا الذي يبدي استعداده أيضاً للمشاركة في المفاوضات والمساعدة على خفض التصعيد، ولكن بشرط وجود اقتناع لبناني بضرورة معالجة ملف سلاح حزب الله وانتقال الحزب إلى العمل السياسي. وفكرة تحول الحزب إلى العمل السياسي، وحلّ كل أجنحته العسكرية والأمنية وتسليم أسلحتها، تتحول إلى شرط دولي واسع. وهي فكرة طرحت في الفترة السابقة لكنها حالياً عادت لتتقدم على ما عداها. وفيما تسعى جهات دولية إلى إقناع الحزب بذلك، وإلى دفعه للدخول في مفاوضات سياسية داخلية حول موقعه ودوره وحصته في بنية النظام، هناك جهات دولية أخرى تسعى إلى التضييق على الحزب أكثر، ومحاولة خنقه.
شرط الحزب للوقوف خلف الدولة
في ظل كل هذه التطورات، جاء موقف رئيس الجمهورية الذي طلب فيه من الجيش التصدي لأي توغل إسرائيلي. وهو موقف أثار الكثير من التساؤلات، وسط معلومات تفيد بأن رئيس الجمهورية أبلغ المعنيين في الداخل والخارج حقيقة موقفه والذي ينقسم إلى قسمين: الأول أنه انطلاقاً من الدستور ومن خطاب القسم، فإن الجيش هو الجهة الوحيدة المخولة الدفاع عن لبنان، ويجب العمل على إعطائه كل الدعم اللازم للقيام بذلك. وهذا ما أيده رئيس مجلس النواب نبيه بري وحزب الله. ولذلك لا بد من النظر إلى هذه المواقف بإيجابية على المدى الأبعد، خصوصاً أن مسؤولي حزب الله يقولون إن الدولة هي المسؤولة عن الدفاع عن لبنان وشعبه وأرضه. وهذا ما دفع بالأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم إلى دعوة الحكومة لدعم الجيش للدفاع عن الأرض، والكلام على ضرورة تطبيق اتفاق الطائف. فهذا الكلام يحمل إشارات إلى استعداد الحزب للوقوف خلف الدولة، ولكن في مقابل أن يكون شريكاً أساسياً وفعلياً في إدارتها.
تهديد بالانسحاب من الميكانيزم
أما القسم الثاني، فهو أن رئيس الجمهورية كان واضحاً مع كل الجهات الديبلوماسية بأن إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمر، وكلما أبدى لبنان استعداداً للتقدم، أقدمت إسرائيل على ممارسة المزيد من التصعيد واستهداف مناطق واسعة في عمق لبنان، ومنشآت مدنية، ومبنى حكومي. وهذا ما لا يمكن للبنان أن يسكت عنه، وقد طلب عون من الأميركيين بوضوح ممارسة ضغوط على إسرائيل لمنعها من مواصلة هذه العمليات. وحتى لو اشتبه الإسرائيليون بموقع معين، فبإمكانهم مطالبة الميكانيزم والجيش بالكشف عنه. وبحسب ما تقول مصادر سياسية متابعة، فإن لبنان هدّد قبل أشهر، وخلال اجتماعات لجنة الميكانيزم، بالانسحاب منها إذا استمرت الاعتداءات الإسرائيلية التي طاولت الجيش اللبناني. ونتيجةً لهذا التهديد، استجاب الأميركيون وتوقفت تل أبيب عن استهداف الجيش. وعليه قد يؤدي هذا التصعيد الجديد إلى دفع الأميركيين للتحرك بجدية وإجبار إسرائيل على وقف التصعيد والضربات.
المفاوضات تحت النار
عملياً، كانت إسرائيل قد عرضت مسألة التفاوض المباشر قبل أشهر، لكن لبنان رفضها. واليوم يعود عرض التفاوض على وقع التحذير من عمليات عسكرية إسرائيلية كبيرة يريد لبنان أن يتجنبها، ولذلك يتجه إلى الموافقة. ولكن، لا تبدو إسرائيل موافقة أو أنها ستكتفي بذلك، بل هي ترغب في الاستمرار في التفاوض تحت النار، لأنها تريد التفاوض لسحب سلاح حزب الله وفرض وقائع سياسية جديدة. هذه الوقائع السياسية تريدها إسرائيل مشابهة لما تطرحه في غزة، خصوصاً أنها تريد هناك خلق منطقة عازلة، وتكون منزوعة السلاح بالكامل. وهذا ما تريده في جنوب لبنان أيضاً.
محاولة خنق الحزب مالياً
أما الجديد الذي سيُطرح دولياً على قاعدة مواصلة الضغوط، فيتوزع إلى جهتين مختلفتين: الأولى تريد لحزب الله أن يتخلى عن كل جسمه الأمني والعسكري ويتحول إلى حزب سياسي بالكامل. والثانية أكثر تطرفاً تمثلها إسرائيل وجهات في الولايات المتحدة الأميركية تعتبر أنه يجب على حزب الله أن يتخلى عن لعب أي دور سياسي أو تأثير في الحياة السياسية في لبنان. وهذه الجهات تسعى إلى ممارسة كل أنواع الضغوط على الحزب، ليس فقط عبر سحب سلاحه، بل من خلال التضييق على كل مؤسساته المدنية، الاجتماعية، الصحية، التربوية وغيرها. وهذا يعني محاولة خنقه مالياً وتشديد الحصار عليه ومنع إدخال الأموال، إضافة إلى الضغط على الدولة اللبنانية لاتخاذ المزيد من الإجراءات التي تطوق أي حركة مالية له يمكن أن تخدمه سياسياً أو شعبياً أو عسكرياً.
تعميم وزير العدل.. وأسئلة أورتاغوس
مثل هذه الإجراءات، بدأت مع تعميم وزير العدل لكتاب العدل بعدم السماح لهم بإجراء أي معاملات للخاضعين للعقوبات الأميركية، ما يعني عدم قدرة هؤلاء على بيع أو شراء أي عقارات أو ممتلكات. ومثل هذه التعاميم قد تصدر عن إدارات أو وزارات أخرى، وسط معلومات تتحدث عن أنه تم التعميم على الدوائر العقارية بوضع إشارات على عقارات أصحابها خاضعين للعقوبات، ما يعني عدم القدرة على التصرف بها. وما كان لافتاً أخيراً هو زيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس لوزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد، وفيها تركزت أسئلة الموفدة الأميركية على المساعدات التي تقدمها الوزارة في لبنان، وما إذا كان حزب الله أو الجمعيات التابعة له تستفيد من هذه الوزارة.
ممنوع تأثيره في المؤسسات
كل ذلك يمكن أن يتطور لاحقاً، وهو مستمد من مسار انطلق قبل سنوات، وخصوصاً في العام 2017، حين تبلغ كل المسؤولين اللبنانيين حينذاك أن حزب الله سيُمنع من التحكم أو التأثير في مسارات اختيار رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، إضافة إلى منعه من التأثير في تحديد الوجهة السياسية للبنان. وهذا المسار استكمل بالضغوط التي وصلت إلى حد المطالبة بمنع الحزب من تسلم وزارات معينة. وتحت هذا العنوان، يُراد للانتخابات النيابية المقبلة أن تخاض في سبيل سحب الثلث المعطل من الحزب وحلفائه.
الهدف العميق فرضُ وقائع جديدة: الحزب السياسي ممنوع أيضاً؟ .





