الصدام آتٍ ولا مفرّ منه

كل العقائد التي خاصمت قضية “لبنان بحد ذاته”، منذ العام 1920، كانت من صنع البشر. مشاريع قوميات عربية وبعثية قدمت أسوأ التجارب في شؤون الحكم. ولأنها أفكار بشرية، حتى رافعو راياتها، كثيرون منهم ندموا، ومنهم من اعترف بالشوائب وتجرأ على المراجعة في نواحٍ عديدة. وعلى مدى أكثر من مئة سنة، صمدت “الفكرة اللبنانية”، بنور العلوم والعرق والدم والدموع.

ما يواجهه لبنان اليوم، أخطر وأسوأ. العقيدة إلهية ولا تحتمل أي مراجعة. بفخر يردد الشيخ نعيم قاسم عبارة لسلفه السيد حسن نصرالله، “إن عشنا انتصرنا وإن متنا انتصرنا”. أي حظ ألقى بنا في دائرة جماعة تخوض صراعًا دينيًا على مستوى عالمي عنوانه الأمة الإسلامية؟ صراع عمره 1400 سنة ولن ينتهي إلا بعودة المهدي المنتظر.

لـ “حزب الله” أن يعتقد ما يعتقد في هذه المسائل، وأن يعيش زمن القرن السابع في القرن الواحد والعشرين. ولكنه يعيش معنا على أرض واحدة وفي دولة واحدة. مشروعهم جمهورية إسلامية أممية، وشهداؤهم “شهداء الأمة”، واستشهادهم بهذا المعنى أعلى منزلة من شهداء ككمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري، الذين قتلوا لأجل رقعة أرض صغيرة لا تتعدى 10452 كيلومترًا مربعًا. عقائد القوميات واليساريات، يمكن الاقتراب منها بالنقد، ولكن هنا إذا انتقدت قد تقع في المحظور الديني.

والمشكلة أن الكلام في السياسة مع هذه الجماعة، من دون طائل. تسليم السلاح، والتخلي عن مشروع “جمهورية إسلامية”، والغباوة المتأصلة في إدارة الصراع مع إسرائيل، موضوعات لا فائدة من مناقشتها. وإذا استذكرنا تجارب هذا التراث الديني الذي يستند إليه “حزب الله”، المآلات هي نهايات دموية. كربلائيات تؤسّس لكربلائيات.

أكثر من مرة أصرّ الشيخ نعيم على إضفاء المسحة الكربلائية على معركة يستعد لخوضها رفضًا لتسليم السلاح. تشدُّد نواف سلام عين الصواب لأنه لا يُعطي رسالة خاطئة. المرونة أوصلت إلى تصاريح متكررة، وعلى لسان أكثر من مسؤول في “الحزب”، مفادها أن الرئيس جوزاف عون التزم قبل انتخابه بساعتين، بأن القرار 1701 مداه الميداني جنوب نهر الليطاني فقط لا غير. المرونة سارية إلى حد عدم إيضاح هذه المسألة.

لماذا أفتى “حزب الله” بأن قرار الحكومة بتسليم السلاح هو “خطيئة”؟ في المعتاد يخطئ البشر أمام الله لا أمام أناس وإن اتخذوا صفة “حزب الله”. هذا “الحزب” الذي يريد إلغاء الطائفية السياسية، ينتحل صفة دينية لا تتورع عن التكفير.

هناك عنصر سمع الشيخ قاسم وهو يحكم على وزراء بأنهم أعداء الوطن والدين بدليل ارتكابهم “الخطيئة”، من يُلام إذا قرر هذا العنصر تطهير المجتمع من هؤلاء وقرر تعجيل ذهابهم إلى نار جهنم؟ الكلام المنطقي الذي يُساق لإقناع هذه الجماعة بتسليم السلاح وفوائد هذا القرار لها وللبنانيين عامة، أصبح مضيعة وقت.

هناك ثلاثة خيارات ولا مفر من الخيار الثالث. الخيار الأول حال الاستنزاف ستستمر في عهد جوزاف عون إلى درجة عودة الاهتراء الذي كان بدأ على عهد ميشال عون. الخيار الثاني إبقاء مصير لبنان بيد نتنياهو، يصعّد أو يهادن، والنتيجة أيضًا نوع ثان من الاهتراء. الخيار الثالث هو الانتقال السريع إلى طرح مسألة “لكم لبنانكم ولنا لبناننا”.

من يستهول هذا الخيار، عليه الانتظار لساعة تبدأ فيها الأمور تتسارع إلى الصدام الحتمي. أدنى حد من الإلمام بثوابت التاريخ يدل إلى أن الصدام لا مفر منه. ومن يعش يرَ.

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...