صار جلياً أنّ لبنان أمام أسابيع عصيبة. قالها الموفدون الأميركيون بشكل صريح وواضح: لا بدّ من إجراءات صارمة تثبت أنّ لبنان قطع شوطاً مهماً في قرار حصرية السلاح، وذلك قبل نهاية العام. كررها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي: المؤشرات العملانية تزيد الغيوم السوداء في سماء لبنان! ما حقيقة الرسالة التي نقلها المصريون؟ ما هي مبادرتهم؟
إنّ التدقيق جيداً في ما قاله المسؤول المصري يظهر أنّه لم يحمل رسالة معينة، لا من الإسرائيلي ولا من الأميركي. جلّ ما أبلغه للمسؤولين اللبنانيين، هو أنّ المؤشرات تتراكم وتزيد قناعة الدول المعنية بالملف اللبناني، بأنّ الإسرائيلي بصدد الاستعداد لتكثيف ضرباته. لا يملك المسؤولون المصريون تصوراً واضحاً، ولا معلومات عن طبيعة هذا التصعيد، ولا عن حدوده ولا زمانه. لكن الدول المعنية، كما المسؤولين اللبنانيين يعرفون جيداً أنّ المهلة محددة بنهاية العام.
حتى أنّ بيان السفارة الأميركية الصادر في 29 تشرين الأول المنصرم، في أعقاب انعقاد لجنة الميكانيزم برئاسة الجنرال الأميركي جوزف كليرفيلد ومشاركة مورغان أورتاغوس، نقل عن الأخيرة ترحيبها “بقرار الحكومة وضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة بحلول نهاية العام”. ما يعني أنّ المجتمع الدولي يتعامل مع هذه المهلة على أنّها ثابتة ومُلزمة للدولة اللبنانية.
الجبهة اللبنانية بلا محاذير
من هنا، تأتي التحذيرات الدولية، وبينها المصرية، من اتخاذ إسرائيل هذه المهلة كذريعة للذهاب في تصعيدها ضدّ لبنان، خصوصاً وأنّه من المتعارف عليه أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يبحث عن جبهة جديدة يخوضها لحماية موقعه الحكومي، فيما جبهة غزّة محكومة بالقبضة الأميركية، ما يجعل جبهة لبنان من دون محاذير، والأكثر قابلية لإعادة تفعليها.
انطلاقاً من الزخم الذي أبدته قمة شرم الشيخ، تسعى مصر إلى استثمار علاقاتها، مع الدول المعنية، سواء إسرائيل أو الولايات المتحدة بعد تفعيل خطوط التواصل مع دائرة دونالد ترامب الضيقة، أو مع السعودية أو فرنسا، لإحداث كوة ولو بسيطة في جدار الأزمة اللبنانية. يعرف المصريون أنّ تكريس قرار حصرية السلاح بشكل شامل، هو قرار معقد ودونه صعوبات كثيرة. بالتالي ثمة استحالة في الانتهاء من تنفيذه خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ولذا لا بدّ من بحث معمق عن إطار يُبعد شبح التصعيد، ويلجم إسرائيل ولو بشكل مؤقت.
في هذا السياق، يمكن الجزم أنّ وزير الخارجية المصري لم يحمل مبادرة متكاملة، وإنما حصل تبادل للأفكار مع المسؤولين اللبنانيين، انطلاقاً من مبادرة رئيس الجمهورية الخماسية. هذا لا يعني أنّ القاهرة تتبنى المبادرة بحرفيتها، بمعنى الشروع بالتاوض مع إسرائيل بعد وقف إعتداءتها وانسحابها من النقاط التي تحتلها. لكن المبادرة قد تكون أرضية صالحة للبحث في أفكار جديدة من شأنها أن تحقق خرقاً مع الإسرائيلي.
وفق المطلعين، إنّ أهمية ما تقوم به القاهرة هو العمل على توضيح الموقف اللبناني أمام الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، لا سيما وأنّ تقارير متضاربة تصل إلى واشنطن عن تطور مهمة الجيش اللبناني. اذ إنّ أسرائيل ترفع تقارير غير موثقة عن استمرار تهريب الأسلحة عبر حدود لبنان الشرقية فيما “الحزب” يواصل عملية ترميم ترسانته العسكرية. في المقابل، يرفع الجيش اللبناني تقاريره إلى لجنة الميكانيزم توثّق تقدّم مهمته في قرار حصرية السلاح.
ضبابية حول مهمة الجيش
بهذا المعنى، ثمة ضبابية حول حقيقة إنتهاء الجيش من مهمته جنوب الليطاني، أقله بالنسبة للمجتمع الدولي، نظراً للمعطيات المتناقضة والتي تحيط قرار حصرية السلاح بالكثير من الشكوك. لهذا تحاول القاهرة المساعدة على توضيح هذه الحقائق لكي يكسب لبنان معركة صدقيته أمام المجتمع الدولي ويدحض الادعاءات الإسرائيلية.
يقول المطلعون إنّ مسألتين بارزتين قد تساعدان على تحريك المياه: ضبط الحدود الشرقية وتقديم البراهين Verifications على تطور عمل الجيش. وفق هؤلاء، فإنّ نقاشات لجنة الميكانيزم تناولت هاتين المسألتين اللتين أثارها الجانبان الأميركي والفرنسي، أكثر من مرة.
اذ أنّ المجتمع الدولي مقتنع أنّ العمل على سدّ هاتين الثغرتين، سواء من خلال ضبط الحدود بشكل دقيق وكامل لقطع الطريق أمام السردية الإسرائيلية التي تتحدث عن استمرار تدفق الأسلحة، أو من خلال تقديم الأدلة على تطور مهمته في نزع “السلاح”، من شأنه أن يدفع المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها والانسحاب من النقاط الخمسة، غير المُقنعة بطابعها الاستراتيجي، كما يؤكد المطلعون.
حتى الآن، لا يزال شكل التصعيدي الإسرائيلي غير واضح. لكن التحذيرات التي يتلقاها لبنان لا تنفي امكانية أن يكون الضغط الذي يُمارس على لبنان، يهدف إلى دفعه إلى مزيد الخطوات على طريق حصرية السلاح خصوصاً وأنّ إسرائيل لم توقف اعتداءتها منذ اعلان وقف إطلاق النار وهي لا تتردد في ضرب أي هدف مشبوه بالنسبة لها. ما يعني أنّها لم تلتزم أصلاً الهدوء ولم تحترم الاتفاق. وهي تستبيح السيادة اللبنانية في مطلق الأحوال.
بالتوازي، يجزم المطلعون أنّ تركيز الإدارة الأميركية هو على مسألة التفاوض، لأنها تعتبره هدفاً ذهبياً تسعى إلى تحقيقه، مشيرين إلى أنّ توافق القوى اللبنانية حول مبدأ التفاوض من شأنه أن يسهّل مهمة الساعين إلى ضبط الأمور، ومنهم المصريين. هذا مع العلم أنّ المواقف أظهرت أنّ لكل من الرئاسات الثلاث مقاربتها للتفاوض.
إذ أنّ رئيس الجمهورية لا يمانع إجراءها برعاية أممية أو أميركية، ما يعني خارج لجنة الميكانيزم، فيما رئيس مجلس النواب نبيه بري يفضّل توسيع الميكانيزم لتضمّ اختصاصيين. أما رئيس الحكومة نواف سلام فيبدي أكثر انفتاحاً في طرحه. لكن المشكلة تكمن في الموقف الإسرائيلي المطالب بتفاوض سياسي على مستوى وزراء، وهو أمر مستحيل.
بالنتيجة، كل هذه المسائل المثارة، من شأنها أن تشكل مادة نقاش لرسم خارطة طريق في محاولة للجم الإسرائيلي، على طريقة الخطوة خطوة. بمعنى أن يبادر لبنان إلى تقديم خظة إضافية تثبت حسن نيته في تنفيذ قرار حصرية السلاح، سواء من خلال ضبط الحدود أو تقديم الإثباتات، لدفع الإسرائيلي إلى تقديم خطوة في المقابل، قبل جلوس الطرفين إلى طاولة تفاوض توضع عيلها كل الملفات… وهذا جوهر مشاورات الوزير المصري مع المسؤولين اللبنانيين.
في المقابل، تقول مصادر لبنانية معنية إن خلاصة الطرح المصري تقوم على أساس استعادة تجربة المفاوضات التي رعتها القاهرة لإنضاج اتفاق غزة، في محاولة للاستفادة من زخم الاتفاق وتوسيع رقعته ليشمل لبنان أيضاً.
الحدود الشرقية و”الأدلة” على مهمة الجيش… تلجمان التصعيد؟ .








