يقترب لبنان من إستحقاق العام 2026 وسط إعادة تموضع سياسي متوقعة، لا سيّما في ما يتعلق بالمشهد الأرمني الذي كان تاريخياً أحد المكونات الأكثر تماسكاً وتأثيراً في المعادلة الانتخابية، خصوصاً في بيروت الأولى والمتن الشمالي. إلا أنّ المعطيات الرقمية والسياسية تشير اليوم إلى تبدّل جذري في موقع القوة الأرمنية، وتراجعٍ واضح في قدرة حزب الطاشناق على ترجيح الكفة كما كان يفعل في العقود الماضية.
مزيد من الانكفاء
يبلغ عدد الناخبين الأرمن في لبنان 104,006 ناخبين، أي ما نسبته 2.6 في المئة من إجمالي الناخبين. يتوزّع هؤلاء بين 84,028 أرمنياً أرثوذكسياً و19,978 من الأرمن الكاثوليك. ويمثلهم في البرلمان ستة نواب: ثلاثة أرمن أرثوذكس في دائرة بيروت الأولى، ونائب أرمن أرثوذكس في المتن الشمالي، وآخر في زحلة، إضافة إلى نائب أرمن كاثوليك في بيروت الأولى. وقد أُضيف مقعد زحلة بعد إنتخابات العام 1992.
بيروت الأولى: من الكتلة الحاسمة إلى التراجع الحاد
تُعدّ بيروت الأولى المركز التقليدي للحضور الأرمني، إذ بلغ عدد الناخبين الأرمن فيها 36,793 أرثوذكسياً و7,288 كاثوليكياً، أي ما مجموعه 44,075 ناخباً. لكن في إنتخابات العام 2022، لم يقترع سوى 9,500 منهم، بنسبة 21 في المئة فقط. هذا التراجع في الإقبال إنعكس مباشرة على نفوذ حزب الطاشناق الذي لم يتمكّن من حشد أكثر من 5,000 صوت لمرشحيه الاثنين، ما أضعف موقعه الذي كان يوماً ركيزة التحالفات في العاصمة.
في المقابل، برزت شخصيات أرمنية مستقلة أو من خارج الحزب، مثل جان طالوزيان (أرمني كاثوليكي) الذي نال 4,043 صوتاً، وجهاد بقرادوني الذي جمع 2,186 صوتاً، فيما حصلت بولا يعقوبيان (أرمنية أرثوذكسية) على 34,245 صوتاً. حتى مرشحا الطاشناق لم يفز منهما سوى واحد، هو أغوب ترزيان. وبذلك تراجع دور الطاشناق في الدائرة التي كانت تُعتبر “القلعة الأرمنية” الأساسية.
في الدورات الانتخابية الاخيرة، تحالف الطاشناق في بيروت مع التيار الوطني الحر، ويبدو أنه في إنتخابات العام 2026 لن يغير الطاشناق إتجاهاته في ما خص بيروت الاولى بالابقاء على تحالفه مع التيار الوطني الحر، وإن كان هذا التحالف لن ينسحب على دائرة أخرى.
المتن: تحالفات متبدّلة
في دائرة المتن الشمالي، يبلغ عدد الناخبين الأرمن 32,077 ناخباً، لم يقترع منهم سوى 6,580، أي نحو 20 في المئة. فاز النائب أغوب بقرادونيان بـ4,973 صوتاً، مستفيداً من تحالفه مع ميشال المر. لكن المفارقة أنّه لو تمكّن المجتمع المدني من الفوز بمقعد ماروني واحد، لكان بقرادونيان خسر مقعده لمصلحة المرشح الأرمني على لائحة القوات اللبنانية الذي نال 237 صوتاً فقط، وهو ما يعكس هشاشة الحضور الأرمني في المعادلة المتنية.
اليوم، تتراوح إحتمالات تحالف الطاشناق في المتن بين آل المر، والقوات اللبنانية، والكتائب، من دون مؤشرات إلى إمكان تجديد التحالف مع التيار الوطني الحر في تلك الدائرة.
بذلك، يفقد الأرمن موقعهم المرجّح في واحدة من أبرز الدوائر المسيحية، بعدما كانوا تاريخياً قوة لا يُستهان بها في قلب المتن الشمالي.
زحلة: مقعد قائم على التحالف لا على الوزن الشعبي
في دائرة البقاع الأولى، زحلة، يبلغ عدد الناخبين الأرمن 3,297 فقط، مع نسبة إقتراع لا تتجاوز 24 في المئة. المقعد الأرمني الأرثوذكسي أُضيف بعد إنتخابات 1992، وغالباً ما يُحسم بفعل التحالفات لا الأصوات الذاتية. ففي إنتخابات 2022، فاز مرشح الطاشناق ووزير الصناعة السابق جورج بوشكيان بـ2,562 صوتاً، مستفيداً من تحالف مع التيار الوطني الحر وحزب الله. لكن حضور الأرمن في زحلة يبقى رمزياً أكثر منه تقريرياً، إذ لا يشكّل 2,500 صوت قدرة على قلب الموازين في دائرة بهذا الحجم. بمعنى أوضح، لم يعد الارمن في زحلة كتلة قادرة على فرض شروطها، بل باتوا بحاجة إلى التحالف مع قوى أكبر لضمان الحد الأدنى من الحضور النيابي.
مشهد متفكك وتحالفات مرنة
إنطلاقاً من هذه المعطيات، يبدو أنّ المشهد الأرمني في إنتخابات 2026 لن يختلف كثيراً عن سابقتها. فالأرمن لم يعودوا قوة ناخبة مؤثرة، لا في بيروت الأولى، ولا في المتن الأولى، ولا في زحلة. كما أنّ حزب الطاشناق لم يعد الحزب المقرر الوحيد، بعدما ظهرت شخصيات أرمنية مستقلة أو منفتحة على تحالفات جديدة خارج الإطار التقليدي.
في بيروت الأولى، يُرجّح أن يجدد الطاشناق تحالفه مع التيار الوطني الحر، فيما تبقى خيارات المتن مفتوحة بين آل المر والكتائب، دون إتجاه واضح حتى الآن. أما في زحلة، حيث لا يملك الأرمن حيثية مؤثرة، فالميل هو للانضمام إلى تحالف يضم التيار الوطني الحر، وميريّام سكاف، وربما سيزار المعلوف ودعم حزب الله.
في المحصلة، تُظهر قراءة الأرقام والوقائع أنّ العصر الذهبي للأرمن في السياسة الانتخابية اللبنانية قد إنتهى على الأرجح. فبعدما كانوا يتحكمون بمفاتيح بيروت الأولى ويقلبون المعادلة في المتن الشمالي، بات تأثيرهم محدوداً ومشروطاً بتحالفاتهم. ومع إقتراب إنتخابات 2026، ربما تتجه الكتلة الأرمنية نحو مرحلة جديدة عنوانها البحث عن مقعد مضمون، لا عن موقع مقرر.
الأرمن في 2026: كتلة إنتخابية خسرت وزنها الحاسم .






