فتح إسلامي جديد سطّره زهران ممداني بفوزه بعمدة نيويورك رغم أنف ترامب. يدعم حقوق المثليين، لا يهمّ، يمكن اعتباره بمثابة عرض جانبيّ لا يحجب أهميّة النصر. ما سبق ليس مبالغة، بل ترجمة عمليّة لموجة الفرح العارمة التي سادت أوساط الممانعة، نخبًا وعوامّ، من “حماس” إلى “حزب اللّه” وصولًا إلى رأس المحور في طهران. حتى يخال للمرء أن ممداني سيخرج بخطاب مخصوص يشكر فيه خامنئي “دام ظلّه” ويعترف بأنه ملهمه.
من المثير حقًا احتفاء حاضنة “الحزب” بفوز حصل عبر صندوق الاقتراع، في الوقت الذي يحاول ممثلوه، بالتكافل مع “الشريك” نبيه بري، ليّ عنق الديمقراطية للتخلّص من كابوس أصوات المغتربين. وإذا كان الاهتمام العالمي بحدث انتخابيّ في أميركا يعدّ أمرًا طبيعيًا لكونه يرتبط بدورها المحوريّ في النظام الدولي، فإن اهتمام محور الممانعة بالذات يختزن حمولة مكثفة من التناقضات في الخطاب الذي يتبناه.
فأميركا “وسيط غير نزيه” على حدّ تعبير الشيخ نعيم قاسم، وهي “الشيطان الأكبر” التي تقود حربًا كونية على نظام الملالي وأذرعه، لكنه يسعى إلى إعادة تجديد بازار سياسي معها. لا يكفّ منظرو الممانعة عن الحطّ من قدر معارضيهم “الممالقين للرجل الأميركي الأبيض”، وفي الوقت عينه يظهرون اهتمامًا هائلًا بتفاصيل الشأن الأميركي، ويعملون على توظيف كلّ حدث فيه لتدعيم سردية “الأمة المنصورة” أو توكيد الاستهداف ونظريات “المؤامرة”.
بيد أن هذا التناقض لا يشكّل حرجًا لارتكازه على سردية دينية تعود بجذورها إلى مفهوم الحاكمية في الإسلام، وكيف تطوّر وأمسى فلسفة حكم تمنح الحاكم سلطة إلهية تمنع المساءلة والنقاش، تحت طائلة الوقوع في “الردة”. في كتاب “البداية والنهاية” لابن كثير الدمشقي، ترد ترجمة لأبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، تتضمّن خطبة بليغة له على منبر عرفة يقول فيها “أيها الناس، إنما أنا سلطان اللّه في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإدارته وأعطيه بإذنه. فقد جعلني الله عليها قفلًا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني”.
هذه الخطبة تعدّ الأكثر انطباقًا على فلسفة الحكم التي أرساها الخميني، والتي تتصل بأفكار ومفاهيم مؤسس “الإخوان المسلمين” حسن البنا. إذ ذاك يغدو المرشد “ميزان الشريعة”، و “سلطان اللّه”، يتمتع بوكالة إلهية تبيح له التحكم بمصائر الشعوب، فينحرها على مذبح مصالح نظامه، ويبسط نخب التفاوض على دمائها مع الشيطان نفسه. وبهذه الوكالة ينكّل خامنئي بمعارضي نظامه بتهمة “الإفساد في الأرض”، المعادل “للردة”، ويصفي الكثير منهم، ولا سيّما رجال الدين السنة، ولا يجد غضاضة في تقديم عروضات استثمار سخيّة لأميركا التي تقصف أرضه وشعبه.
والحال نفسه ينسحب على وكلائه، كلّ في نطاقه، حيث طفقت “حماس” تصفي معارضيها بتهمة الخيانة، بثقة من ينفذ حكمًا إلهيًا لا يحتاج محاكمات ولا دلائل دامغة، وبينما تقدّم آيات الشكر لأميركا التي قتل قادتها وأبناء غزة بسلاحها، تخوّن السلطة الفلسطينية والدول العربية والإسلامية لتعاملها معها. أمّا “حزب اللّه” الذي منح نعيم قاسم لقب “حجة الإسلام” ليغدو “ميزان الشريعة” بعدما كان على الهامش، فلديه سلطان إلهي يجعله “قفلًا” على مشيئة الدولة وإرادة شعبها، ينتخب بتكليف، ويحارب بتكليف، ويفاخر باغتيال رفيق الحريري وقادة الفكر والرأي بقناعة “من قتلناه يستحق”.
ويفتعل عاصفة تخوين ضد “نداء الوطن” بسبب معلومات من الإعلام الإسرائيلي، بينما ينشر إعلامه مواد إسرائيلية بكثافة، لكن الفارق هو في الانتقائية التي تخدم سرديّته. ناهيكم بإعلان إيران عن افتتاح قناة ناطقة بالعبرية لترويج دعاية الملالي في الأوساط الإسرائيلية. يمكن تخيّل ردة فعل “الحزب” ورهطه في ما لو صدرت الخطوة عن دولة خليجية أو طرف لبناني غير حليف، مع أنها تعدّ من أساسيات اللعبة السياسية التي وصلتها طهران متأخرة.
هذا “القفل الإلهي” يكبّل مسار المفاوضات الذي أطلقه رئيس الجمهورية بغية إيقاف نزيف الأرواح، والإشكالية أن الدولة لا تزال أسيرة مشيئته. كيف يمكن رهن مصير كيان وشعب لإداري مقيّد الصلاحيات؟ في ظل الضغوط الهائلة بين حدي التفاوض السياسي المباشر وعاصفة حرب ودماء، هل يكون الحل بانتداب الوزير الأسبق المستشار علي حمية لتمثيل لبنان كي يطمئن “الحزب”؟
حينما تهزم الأنظمة والأحزاب الأيديولوجية تجد نفسها في دائرة مقفلة، فتحاول انتهاج البراغماتية وتقديم تنازلات جوهرية تحت تهديد الزوال، مع الحرص على الحفاظ على الشكل وسردية الانتصار. لكن يبدو أن ضغط الدولة ليس على المستوى الكافي لدفع “الحزب” إلى تقديم تنازلات جدية لأن المطلوب ليس فتح “القفل” بل تفكيكه.
فهل صار الأمر متروكًا لآلة الحرب الإسرائيلية في ظل محاولة “الحزب” فرض شروط تفاوضية بدماء حاضنته؟
أنا سلطان الله وبإذنه أنحر شعوبًا وبدمائها أفاوض .







