مع اقتراب الذكرى الثانية لهجوم 7 أكتوبر الذي زلزلت تبعاته الستاتيكو القائم في المنطقة، يعيش نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية أخطر أزمة وجودية له منذ استيلاء “الثورة الإسلامية” على الحكم عام 1979، إذ خسر ملالي طهران القدرة على ابتزاز وترهيب الغرب والدول العربية من خلال ميليشياتهم الإقليمية بعدما عطبتها إسرائيل، ثمّ قصفت تل أبيب وواشنطن المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية، ما سحب من طهران، على الأقلّ في المدى المنظور، “ورقة النووي” التي تمكّنت عبرها من رفع وتجنب العقوبات الدولية عليها، فيما كانت تنفق أموال الشعب الإيراني، الذي تحرمه من أبسط حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على تطوير البرنامج النووي وبرنامجي الصواريخ الباليستية والمسيّرات، فضلًا عن دعم “تصدير الثورة” عبر ميليشياتها الإقليمية. لم يصل المسار الانحداري الذي علق فيه النظام الإيراني إلى أدنى مستوياته بعد، بل يبدو أن محنة الملالي لا تزال في بدايتها، فقد أُعيد ليل السبت – الأحد، بناء على طلب فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فرض العقوبات الأممية على إيران التي كانت قد رُفعت بموجب الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
يأتي ذلك بعدما فشلت “الترويكا الأوروبّية” هذا الصيف في جعل إيران تُقدّم تنازلات جدّية تشمل التفاوض المباشر مع أميركا واستئناف التعاون الكامل مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي ترفض إيران عمليًا السماح لها بتفتيش المواقع النووية التي قُصفت خلال “حرب الأيام الـ 12″، بالإضافة إلى إقرارها تشريعًا يربط قدرة الوكالة على القيام بعملها بموافقة المجلس الأعلى للأمن القومي في البلاد، في حين تشمل العقوبات الأممية التي أعيد فرضها على الملالي حظرًا على مبيعات الأسلحة التقليدية إلى إيران، وقيودًا على تجارب الصواريخ الباليستية وعلى قطاع النفط، وتجميد أصول شخصيات رئيسية متعلّقة ببرنامجَي إيران النووي والصاروخي، وقيودًا مالية ومصرفية، فضلًا عن حظر تخصيب أو إعادة معالجة اليورانيوم.
قبل مغادرته نيويورك السبت، وصف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الطلبات التي اشترطتها أميركا على بلاده من أجل تأجيل إعادة فرض العقوبات الأممية بغير المقبولة، موضحًا أنه “طلبوا أن نسلّمهم كلّ اليورانيوم المخصّب مقابل تأخير استئناف العقوبات لمدة ثلاثة أشهر… هذا أمر سخيف”. وأكد أنه يُفضل عودة العقوبات الأممية ضدّ بلاده على الخضوع لـ “مطالب أميركا غير المنطقية”، معتبرًا أنه من خلال “العلاقات التي نملكها مع الجيران وبلدان مجموعة “بريكس” و”منظمة شنغهاي للتعاون”، سنتجاوز هذا الوضع”.
ولكن، رغم تعزيز إيران علاقاتها الاقتصادية مع حلفائها خلال السنوات الماضية، يعاني الاقتصاد الإيراني من عقوبات أميركية خانقة أعيد فرضها منذ عام 2018 خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى، وتكثيفه حملة “الضغوط القصوى” على إيران منذ عودته إلى البيت الأبيض هذا العام، في وقت استمرّ فيه الريال الإيراني في التراجع طوال الأسبوع الماضي بسبب ترقب إعادة فرض العقوبات الأممية، حتى سجّلت العملة الإيرانية السبت أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل الدولار، حسب وكالة “رويترز”، التي نقلت عن مسؤول إيراني قوله إن القيادة الدينية في طهران تشعر بقلق متزايد من أن الغضب الشعبي المتنامي بسبب الصعوبات الاقتصادية قد يتحوّل إلى احتجاجات حاشدة من شأنها “أن تضرّ أكثر بوضعها على الساحة الدولية”، إذ يبلغ معدّل التضخم الرسمي في إيران حوالى 40 في المئة، بينما يقدّر البعض أنه يتجاوز الـ 50 في المئة.
وأفادت وسائل إعلام إيرانية في الأشهر الأخيرة بارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية وتكاليف السكن والخدمات، مدفوعة بالانخفاض الحاد في قيمة العملة الإيرانية وارتفاع تكاليف المواد الخام، ما يفسّر تشكيك مسؤول إيراني كبير سابق معتدل خلال مقابلة مع “رويترز” في اتخاذ طهران خطوات جذرية ردًا على عودة العقوبات الأممية، إذ تدرك القيادة المخاطر في ظلّ ضعف موقفها الإقليمي وتزايد الضغوط الداخلية والكلفة المحتملة للتصعيد. وبينما حض الكثير من أصحاب الرؤوس الحامية في إيران على انسحاب البلاد من معاهدة حظر الانتشار النووي، حسم بزشكيان قبل فشل حليفيه الصين وروسيا في تأجيل إعادة فرض العقوبات ضدّ بلاده في مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي، أن طهران لن تنسحب من المعاهدة حتى لو عادت العقوبات.
ورغم أن العقوبات الأممية من شأنها زيادة الضغوط على الاقتصاد الإيراني بشكل كبير، إذ ستؤدّي إلى مزيد من القيود على تجارتها مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، يبقى السؤال ما إذا كانت الصين وروسيا، اللتان تعتبران تفعيل “آلية الزناد” من قِبل “الترويكا الأوروبّية” غير قانوني، ستقرّران عدم الالتزام بها. وفيما من المرجّح ألّا تلتزم موسكو بالعقوبات، ليس واضحًا ما إذا كانت الصين، التي تستورد 90 في المئة من النفط الإيراني، ستلتزم أم لا. وأوضح الباحث المشارك في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية المرتبط بجامعة السوربون كليمان تيرم لوكالة “فرانس برس” أن “هناك كلفة للالتفاف على العقوبات، كلفة سياسية، لكن أيضًا كلفة مالية واقتصادية، لأن التعاملات المالية تصبح باهظة أكثر”. ومن المتوقع أن تفرض الصين، في حال عدم التزامها بالعقوبات، شروطًا تجارية أكثر صرامة على إيران تعكس الواقع الجديد الذي نتج عن عودة العقوبات.
لا يزال الملالي، الذين قد يواجهون “يوم الحساب” قريبًا، يعيشون حال إنكار للتدهور الهائل والمستمرّ في وضعيّتهم الخارجية والداخلية منذ 7 أكتوبر، فهم يرفضون تقديم أي تنازلات، ويراوغون في مفاوضات لامتناهية مع الغرب عبر إبقاء مصير اليورانيوم المخصّب الذي قُصف في “حرب الأيام الـ 12” غامض، علّ هذا الغموض يُبقي الغرب على طاولة المفاوضات ويشتري لهم بعض الوقت ويقيهم شرّ العقوبات والضغوط، إلّا أن رهانهم فشل، إذ إن الغرب والعالم سئموا من خبث الملالي ونفاقهم وتهديداتهم التي تبيّن أنها مجرّد استعراضات خطابية تهاوت مثل ورق التوت عند الامتحان الجدّي الأوّل أمام الدولة اليهودية، التي تضع النظام الإيراني وتحرّكاته النووية والعسكرية نصب أعينها، وستُجدّد ضرباتها على إيران حتمًا في حال اكتشفت أن الملالي يحاولون إعادة بناء قدراتهم، الأمر الذي قد يشكّل، إلى جانب النقمة الشعبية والضغوط الدولية المتفاقمة ضدّ طهران، الضربة القاضية للنظام الإيراني الذي لم يتعاف إطلاقًا بعد من فداحة الخسائر التي تلقاها في الحرب الأخيرة.







