كان كافياً ما أشار إليه بيان الخماسية إلى انّ جدول أعمالها حتى نهاية السنة بات واضحاً وهو رهن ما ستنتهي إليه خطة الجيش لحصر السلاح. وعليه طرحت الأسئلة عن وجوه شبه متعددة للسيدة اورتاغوس بين وجهيها الديبلوماسي والعسكري.
لم يكن مستغرباً اتجاه الأنظار بقوة إلى الناقورة، حيث انعقد الاجتماع الثاني عشر للجنة “الميكانيزم” في حضور المستشارة الأميركية مورغان اورتاغوس. فاللجنة تحولت قاعدة متقدّمة لكل المشاريع المطروحة لإطلاق مسار المفاوضات، للبحث عن حل للبنان، شبيه بذلك الذي حظيت به غزة. فكيف إن باتت البديل المنتظر عن “اليونيفيل” عند انتهاء مهمّاتها في المنطقة؟
كان متوقعاً أن تنتصر نظرية تفعيل عمل لجنة “الميكانيزم”، وتصحيح مسلسل الأخطاء التي ارتُكبت على مدى الأشهر التي عبرت، وقد اقتربت من الشهر الأخير، لتحتفل بالذكرى السنوية الأولى لتشكيلها في الأول من كانون الأول 2024، بعد أيام من اعلان الاتفاق على وقف الأعمال الحربية الذي كُلّفت تنفيذه ومراقبة المراحل التي قال بها، على رغم من عدم تحديدها أي برنامج عمل واضح وصريح، كان يمكن أن ينظّم عملها، على غرار البرامج التي تحدثت عنها التفاهمات التي رُسمت لأحداث المنطقة، ومنها تلك التي كانت تُعقد بين حركة “حماس” وإسرائيل، بما حملته من تفاصيل دقيقة وخطوات رُسمت بدقائقها ومراحلها كاملة بالرعاية الأميركية والدولية نفسها. عدا عن تلك التي عُقدت جزئياً او كلياً على ساحات أخرى، كما في اليمن، عندما تجنّب المسّ بالبوارج والبواخر الأميركية، او في العراق التي انتهت بوقف القصف البعيد المدى على إسرائيل والعمل على جمع الأسلحة غير الشرعية قبل أن تطاول أسلحة “حماس” و”حزب الله” لاحقاً. وكلها تفاهمات لم تظهر إلى العلن بعد سقوطها أكثر من مرّة.
لم تكن هذه المقدّمة مجرد إشارة إلى حدث ما، ذلك إنّ اللجنة ونتيجة التطورات المتسارعة التي تلت التفاهمات الأخيرة، ولا سيما منها تلك التي أوقفت الحرب في قطاع غزة على قاعدة تجميد العمليات العدائية ومن دون التوصل لوقف ثابت للنار وتشكيل الإدارة التي ستتولّى شؤون الغزيين، والدور الذي يمكن اللجنة أن تلعبه في لبنان، بعدما باتت المنطقة بكاملها تحت رعاية قيادة المنطقة الوسطى الأميركية التي ستدير غرفة العمليات المشتركة في غزة، كما بالنسبة إلى أي حل ستنتهي إليه المفاوضات الخاصة بلبنان.
على هذه الخلفيات، كشفت تقارير ديبلوماسية وأممية تلقّاها المسؤولون الكبار، انّ مستقبل اللجنة يدفع اللبنانيين إلى التعاطي معها بكثير من الجدّية والروية، فهي الهيئة التي يمكن ان تكون قناة التواصل مع العدو الإسرائيلي وأي جهة أخرى، وخصوصاً في المرحلة التي ترافق تصفية عمل قوات “اليونيفيل” في العامين المقبلين، ولربما كانت الهيئة البديلة عنها في مستقبل المنطقة ومتى شُكّلت القوة التي ستراقب الوضع على الحدود الجنوبية مع إسرائيل في شكل المتوقع في أي وقت. فكيف إن كان ارتباطها بقيادة المنطقة الوسطى الأميركية يساوي الربط القائم في شكله وآلية العمل بين هذه القيادة وغرفة العمليات المشتركة في قطاع غزة، فرئيسا الهيئتين هما من ضباطها الكبار، ولها الإمرة النهائية على كل المسارات المحتملة، ليس في لبنان وغزة فقط، وإنما في المنطقة الواقعة تحت وصايتها.
وبالعودة إلى اجتماع اللجنة أمس، فإنّ المعلومات التي تسرّبت في تفسيرها لشكل ومضمون البيان الرسمي الذي أصدرته السفارة الأميركية بمعزل عن نظيرتها الفرنسية، شكّل أكثر من مادة للنقاش التي تستحق التوقف عندها، وفقاً لبعض الدلائل والمؤشرات ومنها:
– في الشكل، قد يكون من الصعب على غير أعضاء اللجنة أن يحصوا، أنّ اجتماع الأمس كان “الثاني عشر” على لائحة اجتماعاتها، وهو ما يعني أنّها كانت تعمل في غياب أي إشارة إعلامية إلى نشاطها، عدا عن التكتم على المهمّات التي قامت بها والإنجازات التي حققتها إن وجدت، ومضمون جداول أعمالها. ذلك انّ البيانات السابقة التي صدرت عن السفارتين الأميركية والفرنسية كانت قليلة ونادرة، ولم تشر إلى نشاطها سوى بعدد قليل منها لا يتعدى عدد أطرافها الخمسة.
– إنّ المتغيّرات الأخيرة على مستوى رئاسة اللجنة التي استبدلت حتى الأمس ثلاثة رؤساء لها، ولم تكن قد وضعت ما يمكن تسميته نظاماً داخلياً، قبل تسلّم الجنرال الرابع جوزف كليرفيلد مهمّاته أخيراً، وهو الذي أعلن انّ اللجنة ستنعقد دورياً كل اسبوعين، وإن دعت الحاجة قد تجتمع في أي يوم إضافي، وانّ آلية العمل ستكون أكثر دقة وشفافية، ووفق آلية جديدة لم تُعتمد من قبل، وهو ما أشار اليه الموفد الأميركي توم برّاك، عندما نعى التفاهم الذي لم يحمل في طياته آلية لتطبيق ما قال به.
أما على مستوى المضمون، فهناك كثير مما يُقال في مضمون البيان، وعليه يمكن التوقف عند بعض الإشارات الهامة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– إنّ الإشارة المستفيضة في البيان إلى عملية حصر السلاح بإجراء “مراجعة للتقدّم الذي أحرزه الجيش اللبناني في الحفاظ على ترتيبات وقف الأعمال العدائية، وتعزيز جهود نزع السلاح في لبنان”، بهذه الطريقة أوحى أنّ الملف كان وحيداً على جدول أعمال اللجنة أو أنّه قد استهلك معظم وقت الاجتماع، في اعتباره الأولوية التي لا نقاش حولها ولا أولوية تعلو عليه، وهو ما ترجمته اورتاغوس في ما نُشر على لسانها في بيان السفارة الأميركية بقولها ما حرفيته: “نواصل متابعة التطورات في لبنان، ونرحّب بقرار الحكومة اللبنانية وضع كل الأسلحة تحت سيطرة الدولة في حلول نهاية العام الجاري، ويتعيّن على الجيش اللبناني الآن تنفيذ خطته بشكل شامل”.
وإن لم يقتنع أحد بهذه المعادلة، عليه أن يتنبّه إلى انّ اللجنة رسمت مسبقاً برامج عملها للجلسات الثلاث المقبلة حتى نهاية السنة، والتي أوحت بأنّ ملف “حصر السلاح” الذي يشكّل سبباً في الخروقات القائمة سيبقى موضوع رعاية طوال هذه الفترة. وهو ما أدرج في البيان بعبارة واضحة، قالت إنّها ستكرّس اجتماعاتها المتبقية حتى تلك المرحلة على بند وحيد أُدرج تحت عنوان “السعي إلى إنجاح فرص التخفيف المستمر من انتهاكات ترتيبات وقف الأعمال العدائية”. كما “اتفق المشاركون على أن تظل هذه المسألة بندًا ثابتًا على جدول أعمال جميع الجلسات المستقبلية، باعتبارها جزءًا من الجهد الجماعي للحفاظ على السلام وتعزيز المساءلة في إطار ترتيبات وقف الأعمال العدائية”.
ولا بدّ من الإشارة إلى انّ على جميع المراقبين أن يفهموا انّ الآلية التي حُدّدت لمستقبل الوضع في لبنان، قد رُسمت على نار هادئة جمعت موادها من عصارة تفاهمات غزة. وهي تنتظر لحظة ولادتها على نار هادئة، وانّ هناك مراحل لا بدّ من عبورها مهما كانت العوائق. فالجميع يعرف المخرج وقدراته متى جنّدها كاملة، وهو الذي أتقن توليد مثيلاتها.
“الميكانيزم”: “حصر السلاح” أولاً… والبقية على الطريق! .





