عادَت الحربُ إلى غزّة كما تعودُ النارُ إلى الهشيم، بقصفٍ إسرائيليٍّ جديدٍ ضربَ عرضَ الحائطِ بالاتّفاقِ الذي كان يُفترَضُ أن يُشكِّلَ هدنةً إنسانيّةً ولو مؤقّتة. مرّةً أُخرى، تُثبتُ إسرائيل أنّها لا تَحترمُ إلا ميزانَ القوّة، وأنّ لغةَ الدمّ عندها أقوى من أيِّ التزامٍ أو تعهّدٍ أو ضمانةٍ دوليّة.
منطقُ البقاءِ بالحرب ما زال ثابتاً … رئيسُ حكومةِ الاحتلال، بنيامين نتنياهو، لم يَعُد يرى في التهدئةِ مكسباً سياسيّاً، بل عبئاً يُهدّد وجودَه في الحكم. لذلك، أعاد إشعالَ الجبهةِ في غزّة ليستعيدَ شرعيّته الداخليّة، وليُظهِرَ أمامَ الإسرائيليّين أنّه ما زالَ “الرجلَ القويَّ” القادرَ على حمايةِ أمنِهم، ولو على جثثِ الأطفالِ والنساء.
هو اليوم يُقاتلُ لأجلِ بقائه، لا لأجلِ أمنِ إسرائيل، ويُحاولُ أن يَحسمَ حرباً لم يَعرفْ كيفَ يُنهيها منذ بدايتِها.
كيف تُردَعُ إسرائيل؟
السؤالُ الكبير كيفَ تُردَعُ دولةٌ تمتلكُ الغطاءَ الأميركيَّ الكامل، وتعيشُ على دعمٍ سياسيٍّ وماليٍّ لا يتوقّف؟
الردعُ لا يكونُ بالبياناتِ ولا بالإداناتِ، بل بتكاملِ المحاورِ التي تُشكِّلُ توازُنَ الرعب، حينَ تشعرُ إسرائيل بأنّ غزّة ليست وحدَها، وأنّ أيَّ تصعيدٍ فيها قد يفتحُ جبهاتٍ أُخرى، عندها فقط يُعادُ الحسابُ.
فالردعُ الحقيقيّ ليسَ في مجلسِ الأمن، بل في الميادينِ المفتوحة من الجنوبِ اللبنانيِّ إلى البحرِ الأحمرِ.
الصّمتُ الدوليّ شراكةٌ في الجريمة ذلكَ الصّمتُ المريبُ من قِبَلِ العالمِ ليسَ حياداً، بل تواطؤٌ صريح.
الأممُ التي تملأُ الدنيا ضجيجاً بحقوقِ الإنسان، تُغمضُ عيونَها أمامَ مجازرَ تُبَثُّ على الهواءِ مباشرةً.
والغربُ الذي يَدينُ أيَّ رصاصةٍ تُطلَقُ من غيرِ حليفه، يبرِّرُ القصفَ الجماعيَّ بحجّةِ “الدفاعِ عن النفس”.
أمّا بعضُ الأنظمةِ العربيّة، فاكتفَت بعباراتٍ باهتةٍ تُسكّنُ الضميرَ ولا تُغيّرُ الواقع.
وهكذا، تتحوّلُ غزّة إلى مختبرٍ دائمٍ لقياسِ حدودِ الصّبرِ العربيّ، وإلى ساحةٍ يُمارِسُ فيها نتنياهو ساديّتَه السياسيّة بلا خوفٍ من أحد.
ما يريدهُ نتنياهو ليسَ النصرَ فقط، بل تدميرَ فكرةِ المقاومةِ ذاتِها، وسحقَ أيِّ نموذجٍ عربيٍّ يُقاوِمُه بالسلاحِ أو بالصّمود.
إنّه يُريدُ أن يُعيدَ رسمَ المشهدِ الإقليميّ بحيثُ تبقى إسرائيلُ مركزَ القرارِ، وتبقى بقيّةُ المنطقةِ تدورُ حولَها في فلكِ الطاعةِ أو الخوف.
لكنَّ التاريخَ علَّمنا أنّ الدمَ حينَ يُسكَبُ ظلماً لا يَجفّ، بل يُنبتُ ثورةً جديدة.
غزّة ليست وحدَها نعم فالتحليلاتُ تُشيرُ إلى أنّ استمرارَ القصفِ سيجرّ المنطقةَ إلى مواجهةٍ أوسع.
فإيرانُ واليمنُ ومحورُ المقاومةِ بأسرهِ لن يقفَ متفرّجاً طويلاً إذا ما تحوّلت غزّة إلى رماد.
ولبنانُ، الذي يَعيشُ على حافّةِ حربٍ معلَّقةٍ، يَعرفُ أنّ كلَّ صاروخٍ يسقطُ في غزّة يُقرِّبُه أكثرَ من الخطر.
لكنَّ الصمتَ ليسَ خياراً، لأنَّ الصمتَ هذه المرّة قد يُكلِّفُ الوجودَ نفسَه.
لبنانُ يقفُ اليومَ أمامَ مشهدٍ إقليميٍّ معقّدٍ تتقاطعُ فيه الحساباتُ الدوليّةُ مع نارِ الحدودِ الجنوبيّة.
فأيُّ تصعيدٍ في غزّة لن يبقى محصوراً هناك، بل سيتردّدُ صداه في الجنوبِ اللبنانيّ، حيثُ الجبهةُ الأكثرُ حساسيّةً منذ عام 2006.
إسرائيلُ تُراهنُ على فصلِ الجبهات، بينما يُدركُ حزبُ الله أنّ وحدةَ الميدانِ هي صمّامُ الردعِ الوحيد.
ومع تزايدِ الضغوطِ الاقتصاديّةِ والسياسيّةِ في الداخلِ، فإنّ أيَّ حربٍ شاملةٍ قد تُدخِلُ لبنانَ في مرحلةٍ جديدةٍ من المعاناةِ والتهجيرِ والدمار.
لكنّ الخطرَ الأكبرَ ليسَ في الحربِ وحدَها، بل في الاستسلامِ للصمتِ، وفي الاكتفاءِ بدورِ المتفرّجِ بينما يُعادُ رسمُ خريطةِ المنطقةِ دونَنا.
لبنانُ بحاجةٍ إلى موقفٍ وطنيٍّ موحَّد، يُوازنُ بينَ منطقِ المقاومةِ ومنطقِ الدولةِ، ويَضعُ مصلحةَ الشعبِ فوقَ مصالحِ المحاور.
فإن لم يُحمِ اللبنانيّونَ وطنَهم اليوم، فلن يجدوا غداً وطناً يحميهم.
إنّ ما يجري في غزّة ليسَ حرباً على فصيلٍ، بل معركةٌ على كرامةِ أُمّةٍ بأكملها.
وحينَ يَصمُتُ العالمُ، تبقى الشعوبُ وحدَها القادرةَ على كسرِ الصّمتِ وإعادةِ تعريفِ العدالة.
فغزّة برغمِ الدمارِ ما زالت تكتبُ بدمِها أنّ الاحتلالَ لا يُهزَمُ إلّا بالمقاومة، وأنّ الردعَ لا يُستعادُ إلّا بالقوّةِ، لا بالكلام..
إسرائيل تُعيد إشعال الحرب على غزّة…كِسرُ الاتّفاق وردعُ الصّمت الدوليّ .





