ليس جديداً أن العلاقة بين “حزب الله” و”القوّات اللبنانيّة” حسّاسة جداً، نظراً إلى تقلّباتها بين الخصومة والعداء. وربما ما يشغل بال بعض اللبنانيّين هو هذه العلاقة المتوتّرة أكثر ممّا تشغلهم الحرب بين إسرائيل و”الحزب”، لأن الاشتباك السياسي الضاري بين الحزبين يخشى البعض أن يُهدِّد السلم الأهلي، علماً أنّ “القوّات” ليست حزباً عسكرياً ولا تمتلك سلاحاً يؤهّلها لخوض حربٍ داخليّة، فيما “الحزب” لا يزال مسلّحاً وجاهزاً لمواجهة أيّ طرف في الداخل، كما حصل في محطّات سابقة.
موضوعياً، لا يمكن إطلاق صفة واحدة على هذه العلاقة، فهي متوتّرة وعدائيّة إلى حدٍّ كبير على صعيد القاعدتين الشعبيّتين للحزبين المتنافرين في السياسة، وتتّسم بالخصومة الشديدة على مستوى المسؤولين السياسيّين في الجانبين. إلا أنّ ما يجمعهما هو المؤسسات الدستوريّة، سواء أكان المجلس النيابي أم مجلس الوزراء.
لكن في الآونة الأخيرة، تحدّث نائب الأمين العام لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم عن بلوغ حزبه مرحلة العداء مع بعض القوى السياسيّة، ولا شكّ في أنّ “القوّات” قد تكون أبرز هذه القوى بسبب التباعد الكبير والعميق في الرؤية السياسيّة. ولعلّ هذا العداء يبدو مستفحلاً بشكلٍ لافت على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال الاشتباكات بين الجيشين الإلكترونيّين التابعين للحزبين، حيث تُستخدم “لغة الحرب من دون سلاح”: شتائم وتهديد ووعيد وإهانات، إلى حدّ أنّ أحد الصحافيين وصف ما يجري بالقول: “لو تسنّى لهؤلاء أن يحملوا السلاح لبادروا إلى إقامة المتاريس في الشوارع وبدء حربٍ ضارية“.
المؤسف أنّ لا نقاط مشتركة بين الطرفين، والخطاب السياسي متشنّج، ما ينعكس هجماتٍ متبادلة على “إكس” و”فايسبوك” وغيرها. ومحور الخلاف الدائم هو السلاح، إذ تطالب “القوّات” بتسليمه إلى الجيش اللبناني بموجب القرار الحكومي القاضي بحصر السلاح بيد الدولة، فيما يعلن “الحزب” على لسان أبرز مسؤوليه رفضه البحث في مصير هذا السلاح قبل انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني وعودة الأسرى.
من الواضح أنّ الجوّين المحليّ والإقليمي الضاغطين يساهمان في بثّ أجواء من التوتّر، والمعلومات من الطرفين تشير إلى عدم وجود أيّ تواصل مباشر بينهما، فلا اجتماعات خلف الكواليس ولا تباحث، بل التقاء طبيعي لممثّلي الحزبين من نوّاب ووزراء في المجلس النيابي ومجلس الوزراء، حيث تُبحث أمور عامة، فيتّفقان أحياناً حول مشروع قانون، ويختلفان حول بندٍ آخر. وتؤكّد أوساط “القوّات” أنّ لا حوار ثنائيّاً مع “الحزب” حول السلاح أو مستقبل العلاقة، لكنها لا تعتبر أنّ مصطلح “العداء” صالح لوصف العلاقة بينهما، لافتةً إلى أنّه “حين تصف أحداً بالعدوّ، لا تجلس معه في البرلمان أو الحكومة”. ومع ذلك، تقرّ بوجود “مشكلة كبيرة مع الحزب”، وترى أنّ سلاحه هو السبب الأساسي لعدم نهوض الدولة.
كلا الحزبين يعتبر الآخر رأس حربةٍ مناهضاً لمشروعه: فـ”الحزب” يرى في “القوّات” رأس حربةٍ في مواجهة سلاحه، فيما ترى “القوّات” أنّ “الحزب” رأس حربةٍ في إبقاء لبنان ساحةً ملحقة بإيران.
وتصف أوساط “القوّات” المشكلة مع “الحزب” بأنّها ذات طبيعة استراتيجيّة تتّصل بالنظرة إلى البلد، لأنّها تؤمن بالدولة والدستور والقوانين، بينما يرى “الحزب” البلد من خلال دوره المسلّح ومقاومته وكونه ذراعاً عسكريّة لإيران.
أما الأوساط المقرّبة من “الحزب” فتوضح أنّ العلاقة مع “القوّات” تميل إلى العداء أكثر من الخصومة، “لأنّ الخطاب السياسي الذي نسمعه منهم عدائيّ، ويتدرّج من الصفّ الثاني الأكثر حدّة إلى الصفّ الأوّل الأخفّ عدائيّة. ومع ذلك، لا يبحث الحزب عن مساحات مشتركة أو تنظيم للخلاف، فيما نعتبر حزب الكتائب خصماً أكثر هدوءاً، إذ يحافظ على خيوط ممدودة وجسور حوار“.
وتلفت أوساط “الحزب” إلى أنّ العداء تجاههم هو ردّة فعل على نظرتهم إلى المقاومة والتبرير الدائم لما تفعله إسرائيل، وربما تجاوز الأمر موضوع السلاح ليصبح خلافاً عقائديّاً وثقافيّاً، إذ يشعرون أنّ “القوّات” تنظر إلى “الحزب” كأنّه حالة غريبة.
ويتّفق الحزبان على أنّ الأزمة بينهما بنيويّة وعميقة، وتتخطّى مسألة السلاح. فحتى إذا وُضع هذا الملف جانباً، ستبقى هناك فجوة في الخيارات الاستراتيجيّة الكبرى بينهما. فـ”الحزب” يعتبر العلاقة مع إسرائيل خطاً أحمر، ويرى أنّ هذا “الكيان” إلى زوال ولا مجال للتسوية معه، بينما تؤمن “القوّات” بحلّ الدولتين وتعتبر الولايات المتحدة دولة صديقة، ما يعكس اختلافاً جذريّاً في نمط التفكير.
في المقابل، لا ترى أوساط “القوّات” ضرورة لأيّ حوار مع “الحزب” حول السلاح، “لأنّ هذا الأمر جُرِّب سابقاً، ونحن نعتبر أنّ المساحة المشتركة الوحيدة بيننا وبينه هي الدولة، والمؤسف أنّ الحزب لا يؤمن بها، فهو يمثّل الفريق الانقلابي على مفهوم الدولة“.
ما يتخوّف منه الرأي العام اللبناني هو أن يدخل طابور خامس بين الفريقين، فحادثتا الطيونة وعين الرمانة لا تزالان ماثلتين في الأذهان، ويبدو أنّ النزاع على حافة الهاوية ويجب ضبطه كي لا يفلت، وخصوصاً في ظلّ غياب الثقة والأحكام المسبقة بين الطرفين.
لكن أوساط “القوّات” تؤكّد أنّ لا خطر من أيّ حربٍ أهليّة، لأن لا سلاح في يدها، وهناك قرار واضح بالاحتكام إلى الدولة والجيش إذا وقع أيّ احتكاك. ولعلّ الرهان الوحيد اليوم للجمع بين الطرفين المتناقضين هو مجلسا النواب والوزراء، حيث يتقاطعان أحياناً حول القرارات المتّخذة أو اقتراحات القوانين. وتؤكّد أوساط “الحزب” أنّ ظروفاً معيّنة قد تفرض أحياناً تلاقيهما، كما حصل في الانتخابات البلديّة الأخيرة في بيروت حرصاً على المناصفة. والحسنة الوحيدة في العلاقة بين الطرفين أنّها مؤسّساتيّة، سواء في المواجهة أم في التقاطع.
هل بلغ “الحزب” و”القوات” حدّ العداء؟ .


