المغتربون والانتخابات: شراكة كاملة أم “كومبارس” بلا فاعلية؟

عندما أُدخل بند اقتراع اللبنانيين غير المقيمين إلى قانون الانتخابات، بدا كأنه انتصار رمزي أكثر منه إصلاحًا فعليًا. فالخارج الذي يُفترض أن يكون امتدادًا طبيعيًا للوطن، تحوّل في النصوص إلى دائرة انتخابية رقم 16، أشبه بجزيرة معزولة في بحر الطائفية والزبائنية اللبنانية.

القانون رقم 44/2017 نصّ على إنشاء هذه الدائرة الخاصة بالمغتربين، لتُمكّنهم من انتخاب ستة نواب فقط، موزعين طائفيًا ومناطقيًا على النحو الآتي:

ماروني، أرثوذكسي، كاثوليكي، سنّي، شيعي، ودرزي، يمثلون القارات الستّ التي تنتشر فيها الجاليات اللبنانية. أي أنّ التوزيع الطائفي نفسه يُعاد إنتاجه خارج الحدود، وكأن القانون أراد تصدير النموذج اللبناني بكل علله، بدل أن تتيح هذه التجربة رؤية جديدة إصلاحية لمفهوم اختيار ممثلي الشعب بأصوات واقتناعات قائمة على الانفتاح وسعة الأفق والبعد عن التقوقع في المذهبية والمحسوبيات والانتفاع. 

وهم الإصلاح

حين طُرحت فكرة الدائرة 16، روّج لها كثيرون باعتبارها خطوة إصلاحية، تعطي المغتربين صوتًا خاصًا في المجلس النيابي. لكن سرعان ما تبيّن أن هذا “الإصلاح” جزئي، يحد من مفعوله مخاوف القوى التقليدية من تأثير الصوت الاغترابي. فالمغترب الذي يعيش في بيئة قانونية واقتصادية مختلفة، أقل خضوعًا للزبائنية وأكثر استقلالًا في خياره السياسي، بدا عنصرًا مربكًا لمنظومة تستمدّ قوتها من السيطرة على تفاصيل العملية الانتخابية داخل لبنان، سواء بالترهيب أو بالترغيب.

عمليًا، لم تطبق منهجية الدائرة 16 في انتخابات 2018 ولا في انتخابات 2022. ففي الدورتين اقترع المغتربون لـ128 نائبًا ضمن دوائرهم الأصلية. ومع اقتراب اجراء الانتخابات النيابية في أيار 2026، يتجدد الجدل: هل يُحصر تمثيلهم بستة نواب أم يُدمجون في المشهد الانتخابي الكامل؟ الجواب بقي معلّقًا بين نص لم يُطبَّق، وإرادة سياسية لدى الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر غير راغبة في توسيع التمثيل.

تفاصيل الدائرة الغامضة

نصّ القانون على أن الدائرة 16 تُقسَّم إداريًا إلى قارات، وأن كل لبناني مقيم في الخارج يقترع في السفارة أو القنصلية الأقرب إليه. أما المرشحون، فيمكن أن يكونوا مقيمين في لبنان أو في الخارج، شرط أن تتوافر فيهم الشروط القانونية نفسها لأي مرشح آخر.

وفي هذا السياق يقول مدير مكتب الإحصاء والتوثيق كمال فغالي لـ”المدن”، في الواقع، “القانون لم يضع أي شروط واضحة في هذا المجال، بل ترك الأمور فضفاضة، بحيث يعود إلى وزير الداخلية إصدار المراسيم التطبيقية وتحديد آلية التوزيع. وهذه من صلاحيات الوزير كما أكد لي النائب ابراهيم كنعان. وهنا تكمن إحدى الثغرات الأساسية: فالمقاعد الستة حُدّدت طائفياً وجغرافياً بالتفاهم السياسي، لا بنص قانوني صريح، ما يفتح الباب أمام جدل واسع حول مرجعيتها وصلاحيات الوزير في فرضها.”، يضيف فغالي ” بحسب القانون أي لبناني، سواء كان مقيماً في الداخل أو الخارج، يمكنه نظرياً أن يترشّح لهذه المقاعد، تماماً كما يحق لأي مرشح من بيروت أن يترشّح في جزين. القانون لا يمنع ذلك، لكن المعضلة تبقى في كون التوزيع نفسه لم يُصَغ بشكل واضح، بل تُرك للاجتهاد السياسي والقرارات الإدارية.” 

لكن كلام فغالي واستشهاده برأي النائب كنعان لا يلغي كون البنود الأخرى من قانون الانتخاب مفصلة وخالية من الغموض المحصور بالمادة المتعلقة بالدائرة 16. وكذلك لا بد من الإشارة إلى  مفارقة جوهرية: ماذا عن الفائزين؟ هل سيشاركون فعلاً في جلسات مجلس النواب في بيروت؟ أم سيمثلون المغتربين رمزيًا فقط؟ لا يوجد جواب واضح. فالنص لم يحدّد آلية حضورهم أو مشاركتهم، وكأنّ المشرّع لم يتخيّل لحظة أن هؤلاء الستة قد يصبحون فعلاً نوابًا فاعلين داخل البرلمان.

وبحسب ما أوضحت مصادر مطلعة على الترتيبات المتعلقة بآلية انتخاب المغتربين لـ”المدن”، فإن المادة 123 تنص على أن تنشأ لجنة من وزيري الداخلية والخارجية لتحديد تفاصيل تطبيق الفصل المتعلق بانتخاب النواب الستة، أما المادة 124 فهي تنص على تقديم اقتراح من وزير الداخلية إلى مجلس الوزراء لاتخاذ قرار بأغلبية الثلثين لاقرار اللازم بهذا الخصوص”.

تضيف المصادر: “يُعمل الآن على تأليف اللجنة المشتركة حسب المادة 123 وعلى ضوء ما يتم التوصل اليه ينظم تقرير بذلك ثم يتقدم وزير الداخلية  بالاقتراحات اللازمة إلى مجلس الوزراء، وفي حال تبين  وجود صعوبات معينة تفرض العودة إلى مجلس النواب، ينظر بالأمر في حينه”.

التمثيل المذهبي في الخارج

اللافت أنّ المقاعد الستة المخصّصة لغير المقيمين طُرحت دائماً وكأنها موزّعة طائفياً وجغرافياً: مبدئياً النائب الماروني لأوروبا، والمسلم الشيعي لأفريقيا، والمسلم السنّي للخليج، والأرثوذكسي لأميركا، والكاثوليكي لأميركا اللاتينية، والدرزي لأستراليا. لكن في الواقع، لا يقدّم القانون نفسه آلية واضحة لهذا التقسيم، ما يجعل توزيعها غامضاً وقابلة للتأويل، وهو أحد أبرز مكامن الخلل فيه. فالنتيجة أنّ ملايين اللبنانيين المنتشرين في الخارج يُختزل تمثيلهم بستة مقاعد غير متّفق حتى على طريقة توزيعها بين الطوائف والمناطق. وبهذا المعنى، تحوّلت “الدائرة 16” من محاولة لتوسيع التمثيل إلى مرآة مضخّمة لأزمة النظام اللبناني نفسه: لا تمثيل بلا طائفة، ولا إصلاح خارج القيد الطائفي.

السياسة تخاف من الاغتراب

في العمق، الخشية ليست من “الفكرة” بل من “النتيجة”. فالتجارب السابقة أظهرت أن أصوات الاغتراب تميل أكثر إلى التصويت غير التقليدي، وتعبّر عن مواقف سياسية غير منضبطة بولاءات محلية أو مصالح مباشرة. في انتخابات 2022 مثلا، صوّت المغتربون للدوائر اللبنانية العادية، وساهموا بشكل واضح في فوز مرشحين تغييريين في أكثر من منطقة.

هذا ما يجعل القوى التقليدية تفضّل الإبقاء على تمثيل رمزي للاغتراب، يحدّ من تأثيرهم الفعلي، ويُفرغ الحقّ الدستوري من مضمونه. فـ«ستة نواب» رقم مريح للسلطة: يعطيها واجهة إصلاحية أمام المجتمع الدولي، من دون أن يهدد توازناتها الداخلية.

النقاش القانوني والسياسي

قانونيًا، ربطت المادة 122 من القانون الانتخابي، تطبيق الدائرة 16 بالدورة التالية، أي بعد أول انتخابات يُشارك فيها المغتربون بالتصويت للدوائر الداخلية. هذا يعني أنّ تطبيقها في الدورة المقبلة (2026) أصبح ملزمًا نظريًا. لكن سياسياً، كل المؤشرات تدل على أنّ هذا البند يشكل أزمة داخلية كبيرة، خصوصاً أنه تسبب بانقسام حاد في مجلس النواب بين من يريد للمغترب التصويت لـ 128 نائبا وبين من يحارب هذا الطرح  بحجة عدم تعديل القانون، وكل فريق متمسك بموقفه لحسابات انتخابية. 

عمليًا، إنشاء دائرة واحدة عالمية، من دون تحديد دقيق للحدود الجغرافية والسياسية، يطرح إشكاليات عديدة: كيف تُحتسب النسبية؟ كيف تُنظَّم اللوائح؟ كيف يُراقب الصرف الانتخابي في خمس قارات مختلفة؟ أسئلة من هذا النوع كفيلة بأن تُستخدم كذريعة لتأجيل الإصلاح إلى أجل غير مسمّى.

حول هذا الموضوع يضيف فغالي “أنّ الفكرة الأساسية كانت أن تُنشأ دائرة واحدة للمغتربين تضم المقاعد الستة، على أن يُنتخب النواب وفق النظام النسبي. إلا أنّ هذا الحل يواجه انقسامات بين اتجاهين في الإغتراب: فهناك شريحة من المغتربين القدامى الذين يرون في تخصيص دائرة لهم اعترافاً بوجودهم ودورهم التاريخي، فيما يميل جزء كبير من المغتربين الجدد، الذين هاجروا في السنوات الأخيرة ما زالوا منخرطين مباشرة في السياسة الداخلية، إلى المطالبة بالاقتراع لكل مقاعد المجلس، لا بحصرهم بستة نواب فقط.” يعتبر فغالي أن قانون انتخاب المغتربين فيه الكثير من الثغرات وإبقاء الأمور على حالها، سيحوّل “الدائرة 16” إلى موضع التباس دائم، وربما إلى سبب إضافي لتعطيل العملية الانتخابية.

في المحصلة، الاغتراب اللبناني ليس جالية صغيرة، بل امتداد وطني واقتصادي وثقافي حيوي. تحويله إلى دائرة انتخابية هامشية هو تقليص لحق سياسي أساسي، لا تعويض له إلا بدمج المغتربين في العملية الانتخابية الكاملة.

من المنطقي أن يُنتخب الـ128 نائبًا من كل اللبنانيين، داخلًا وخارجًا، على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات. فصوت اللبناني في باريس أو سيدني لا يقلّ شرعية عن صوت اللبناني في زحلة أو صور.

القانون الذي حصرهم بستة نواب هو قانون لا يضع “لبناني الداخل” و”لبناني الخارج” في المرتبة ذاتها، ويحوّل حق الاقتراع الاغترابي إلى امتياز رمزي لا مفعول له في الاستحقاق الانتخابي. أما الإصلاح الحقيقي، فيبدأ حين يصبح المغترب شريكًا كاملًا في اختيار المجلس النيابي كله، لا مجرّد “كومبارس غير فعال” من خلف البحار.

المغتربون والانتخابات: شراكة كاملة أم “كومبارس” بلا فاعلية؟ .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...