منذ لحظة التفاهم بين وفد نواب “حزب الله” ووزير الداخلية، برزت ملامح أزمة جديدة بين الدولة اللبنانية و”الحزب”. الاتفاق قضى بالسماح بتجمع يضم 500 شخص عند صخرة الروشة من دون إضاءتها، باعتبار أن منع أي تحرك بشكل كامل قد يشكل احتكاكًا أو مواجهة غير مرغوبة. لكن ما جرى أمس أثبت مجددًا أن أي رهان على التزام “حزب الله” باتفاقات مع الدولة هو رهان خاسر، وأن “الحزب” لا يرى نفسه ملزمًا بأي عهد أو تفاهم إلا بقدر ما يخدم أهدافه.
التوقعات كانت واضحة لدى بعض المسؤولين الأمنيين الذين يعرفون جيدًا سلوك “الحزب”. هؤلاء أكدوا أن “حزب الله” سيتجاوز العدد المحدد، لكنه قد يلتزم بعدم إضاءة الصخرة. غير أن التوقع سقط للمرة الألف، و”الحزب” قرر المضي في خرق الاتفاق من دون أي اعتبار للدولة أو لهيبتها، فأنار الصخرة بصورة أمينه العام، في رسالة مباشرة مفادها أن القرار في لبنان ليس للدولة بل له وحده.
اختيار الروشة لم يكن صدفة. هذا المعلم البيروتي الأبرز، والرمز السياحي الأول للعاصمة، أراده “الحزب” منصة لتكريس صورته، وللتأكيد أنه لا يُحاصَر بل يحاصِر، وأن فائض القوة الذي بناه على مدى عقود ما زال قائمًا ومتحكمًا. صورة الأمس لم تكن مجرد إضاءة بل كانت إعادة إنتاج لروح الطيونة و7 أيار، وإن من دون السلاح، لكن بنفس الروحية الاستعلائية والقدرة على فرض الأمر الواقع بالقوة الرمزية.
في المحصلة، سقطت هيبة الدولة مجددًا. فكيف يمكن لدولة عاجزة عن منع استخدام مرفق عام لإضاءة صورة، أن تنجح في المهمة الأكبر: سحب السلاح غير الشرعي وضبطه؟ هذه المفارقة المرة تكشف أن كل الكلام عن بسط سيادة الدولة مجرد شعارات جوفاء، تتساقط عند أول اختبار ميداني.
الرسالة التي أراد “الحزب” إيصالها كانت موجهة إلى الداخل والخارج معًا. في الداخل، هو يقول إنه ما زال الممسك بزمام المبادرة، وأن أي سلطة رسمية ليست سوى واجهة هشة. أما في الخارج، فالصورة كانت جوابًا مباشرًا على كل من يراهن على إضعافه أو محاصرته. إنها رسالة تحدٍ وتكريس لواقع أن “الحزب” هو “اللبنان الحقيقي” بنظره، والدولة مجرد ملحق.
ولعل ما جرى يؤكد حرفيًا ما سبق أن أعلنه توم براك: الدولة اللبنانية فقدت سيادتها، وهيبتها تنهار أمام كل استعراض قوة يقدمه “حزب الله”. اتفاق غادر جديد، يسقط معه ما تبقى من صورة الدولة.



