“الموساد” في بيروت: تفاصيل اغتيال نصرالله

الموقع حيث كان موجوداً يقع على عمق 35 متراً بينما اخترق الصاروخ 28 متراً فقط

كشف التسلسل المتدرج للأحداث عن أن اغتيال حسن نصرالله لم يكن ضربة فجائية، بل تتويجاً لمسار استخباراتي طويل، مرّ بتمهيدات ميدانية كـ”عملية البيجر” وزرع أجهزة داخل المنشآت. ويرى الخبراء أن الضربة تجسد نمطاً جديداً من الحروب يجمع الذكاء الاصطناعي بالجهد البشري.

مرت سنة كاملة على اغتيال الأمين العام السابق لـ”حزب الله” حسن نصرالله، لكن خيوط العملية لم تكشف كلها بعد، بل تواصلت التسريبات والتقارير المتواترة من الإعلام الإسرائيلي ووكالات غربية لتقدم صورة متشابكة، تجمع بين العمل الاستخباراتي الإلكتروني والاختراقات الميدانية، وتظهر أن العملية لم تكُن وليدة لحظة بل تتويجاً لتحضيرات طويلة الأمد، امتدت من بعد حرب يوليو (تموز) عام 2006 وصولاً إلى تنفيذ الضربة.

وبات واضحاً أن العملية متعددة المستويات امتزج فيها زرع أجهزة إلكترونية بالاختراقات الميدانية، وتوظيف مكثف للأقمار الاصطناعية والمسيّرات، قبل أن تطلق الطائرات قنابلها الخارقة لاغتيال نصرالله وتدمير مركز قيادي محصن، لكن الصورة الكاملة رهينة أسرار استخباراتية قد لا يكشف عنها قريباً، لكن المؤكد أن ما جرى سيبقى علامة فارقة في تاريخ الصراع بين إسرائيل و”حزب الله”.

وتؤكد تقارير استقصائية أن الاستخبارات الإسرائيلية منذ ما بعد “حرب 2006” شرعت في بناء بنك معلومات ضخم عن “حزب الله”، قياداته وأماكن وجوده وشبكات الاتصالات وسلاسل الإمداد. وقامت الوحدة 8200 المتخصصة في الاستخبارات الإشارية (SIGINT) و”الموساد” بدور متكامل في هذه العملية، فجمعت معلومات عبر التنصت والاختراق الإلكتروني من جهة، والتجنيد البشري (HUMINT) من جهة أخرى.

ومع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، أعيد تفعيل هذا المخزون وتحويله إلى خطة هجومية متكاملة تستهدف بنية الحزب القيادية وتبلغ ذروتها باغتيال نصرالله.

التمهيد بالـ”بيجر”

الحدث الذي شكّل نقطة تحول هو انفجار آلاف أجهزة النداء (بيجر) وأجهزة اللاسلكي في الـ17 والـ18 من سبتمبر (أيلول) عام 2024. فهذه الانفجارات التي أوقعت قتلى وآلاف الجرحى في صفوف “حزب الله”، كانت بمثابة مقدمة تمهيدية لزعزعة المنظومة الداخلية.

التحقيقات أشارت إلى أن الأجهزة كانت مرخصة من شركة تايوانية تدعى “غولد أبولو” (Gold Apollo)، لكن التصنيع الفعلي جرى عبر شركة مقرها بودابست تسمى BAC Consulting Kft.. والتلاعب تم داخل سلسلة التوريد نفسها، مواد متفجرة زرعت في الأجهزة بحيث تنفجر عند استقبال إشارات مشفرة.

وتشير مصادر أمنية لبنانية إلى أن قرابة 5000 جهاز كانت مهيأة للانفجار في لحظة محددة، مما أثبت أن الاختراق لم يكن افتراضياً فقط بل مادياً أيضاً، واستهدف البنية اللوجستية للحزب قبل أن يطاول بنيته العسكرية.
الاختراقات الميدانية

لكن الضربة لم تعتمد فقط على التكنولوجيا، فقد سرب “الموساد” أخيراً أن فرقاً من عملائه تسللت بالفعل إلى قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى المنشأة حيث كان نصرالله موجوداً، وزرعت أجهزة إلكترونية داخلها. وهذه الفرق اعترفت أن نسبة نجاح العملية لم تتجاوز 50 في المئة، وأن احتمالات الفشل أو الاعتقال كانت متساوية تقريباً، لكن على رغم ذلك مضت في تنفيذ المهمة. وبعض الروايات الإسرائيلية تحدثت عن عناصر تسلقت جدراناً داخل الأحياء المكتظة تحت غطاء القصف الجوي.

ووصفت الصحف الإسرائيلية الأجهزة التي زرعت بأنها أقرب إلى “الخيال العلمي”، فقد طورت منذ عام 2022 لتلبية حاجات استخباراتية معقدة، ليس فقط في لبنان بل أيضاً لمواجهة البرنامج النووي الإيراني. وهذه الأجهزة، وفق تلك الروايات، ساعدت في توجيه الضربة بدقة نحو غرف محصنة تحت الأرض.

عيون في السماء

ويوضح مصدر عسكري متخصص في الشؤون التقنية أن العملية استندت إلى منظومة مراقبة متعددة المستويات وطبقات استشعار متكاملة، طائرات مسيّرة تكتيكية MALE وأقمار اصطناعية حاملة لأجهزة “إي أو/ آي آر” EO/IR و”أس أي آر” SAR ومحطات رصد أرضية متحركة لالتقاط الطيف الراديوي.

وعلى مستوى الإشارات، وظفت الوحدة الاستخباراتية تقنيات التقاط المحتوى وتحليل توقيعات التردد، مع أدوات تحديد المواقع الراديوية مثل “تي دي أو أي/ أف دي أو أي” TDOA/FDOA لتثبيت مصادر الانبعاثات.

ويرجح أنه على المستوى المرئي استخدمت صور SAR لاختراق السحب ورصد التغير البنيوي، لاكتشاف الحركة الأرضية، بينما أمنت كاميرات EO/IR والرصد الحراري مؤشرات ليلية وحرارية دقيقة.

وبرأيه، فإن وحدة 8200 المتخصصة، جمعت هذه الطبقات في منصة إدماج بيانات مع التحليلات المرئية وخوارزميات، إضافة إلى مراقبة دقيقة لنمط تغير الحراسة وإطفاء أجهزة معينة، مما جعل توقيت الضربة محدداً وموثوقاً.

“تأثير المطرقة”

وفق مصادر استخباراتية غربية، استعمل سلاح الجو الإسرائيلي قنابل خارقة للتحصينات من نوع “بي أل يو-109” BLU-109 وما يماثلها، يبلغ وزن كل منها نحو ألفَي رطل. وذكرت أن عدد القنابل المستخدمة وصل إلى نحو 86 قنبلة، مصممة لاختراق طبقات قد تمتد حتى 30 متراً، مما يفسر حجم الحفرة والدمار العميق الذي رصد لاحقاً.

وأظهرت لقطات وصور نشرت عبر وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية، طائرات “أف-15” F-15 محملة برؤوس اختراقية من طراز BLU-109 بهدف تحقيق ما يسميه العسكريون “تأثير المطرقة”، أي تكرار الضربات على النقطة نفسها لتمزيق طبقات الخرسانة والتربة والوصول إلى الأعماق.

وتشير تحليلات فنية إلى احتمال توظيف منارات إلكترونية صغيرة أو وسائل إرشاد ميدانية وضعت فوق المبنى لتزيد من دقة التوجيه، مما يعطي مؤشراً إضافياً على التنسيق الوثيق بين عناصر التسلل الأرضي وعملية القصف الجوي.

في المقابل، يشير إعلام “حزب الله” إلى أنه بعد انتشال الجثمان، تبين أن جسد نصرالله لم تظهر عليه جروح وأن سبب الوفاة هو صدمة حادة نتيجة ضغط الانفجار، فيما تحدثت تقارير أخرى عن أن التفجيرات أطلقت غازات سامة وأدخنة داخل المخبأ، مما تسبب في اختناق جميع الموجودين نتيجة تسرب هذه الأبخرة السامة بعد اختراق التحصينات، خصوصاً أن جثمانه لم يحمل آثار جروح خارجية.

أسرار “المخبأ”

وضح مصدر أمني لبناني أن “الأمانة العامة” أو “مركز القيادة” حيث كان حسن نصرالله موجوداً ساعة الغارة يقع تحت أحد أحياء منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، تحت مبانٍ سكنية متعددة الطوابق، وهو مجمع مكوّن من أربع بنايات لا يقل ارتفاع كل منها عن سبعة طوابق، وأن الغرفة التي اجتمع فيها نصرالله ومساعدوه كانت على عمق يقارب 30 متراً، وهي عبارة عن ملجأ محصن عميق.​​​​​​​

ويلفت المصدر ذاته الى أن المجمع عبارة عن قاعة عمليات تحت الأرض يلتقي فيها كبار القادة للتنسيق وإدارة المعارك، والتحصينات فيه متعددة الطبقات وتحت تغطية مبانٍ سكنية، مما يجعل اكتشافه صعباً ما لم يكُن هناك اختراق استخبارتي، وبرأيه لم يكُن مقراً دائماً لإقامة نصرالله، بل كان يتردد إليه للقاء قادة الحزب، مشيراً الى أن حياته اليومية كانت سرية للغاية، وكان يفضل البقاء في أماكن مختلفة وتسجيل خطبه مسبقاً لتقليل ظهوره.

وبحسب المصدر، كانت إجراءات الأمان في المخبأ تعتمد على عدم انتظام التحركات وسرية الاجتماعات. وكان نصرالله يلتزم بطوق أمني ضيق، ودائرة الأشخاص الذين يعرفون مكانه كانت صغيرة، والمقر يشبه غرف العمليات الخاصة بالجيوش، حيث توجد وسائل اتصال داخلية ومخارج طوارئ، لكن الاعتماد الكلي كان على السرية والعمق.

“مختار الجنوب”

وفي السياق، يرى المتخصص في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية خالد العزي أن “اغتيال حسن نصرالله كان نتيجة متابعة استخباراتية دقيقة وخيوط معقدة نسجت بعناية فائقة، إذ اعتمدت إسرائيل على فرقة خاصة مزودة بأحدث الأجهزة لرصد وتعقب أهداف داخل الضاحية”.

وبرأيه، “كانت إسرائيل على علم مسبق بالاجتماع الذي عقد في حارة حريك بحضور نصرالله نفسه وعدد من عناصر الحماية وقوة خاصة من الحزب، فضلاً عن جنرال إيراني وأبو علي كركي المسؤول عن العمليات الخاصة”. وهذا التقاطع في المعلومات انسجم مع ما أقر به نصرالله خلال خطابه الأخير الذي اختصره بثلاث نقاط أساسية، اعتراف بتفوق إسرائيل تكنولوجياً وإقرار بوجود خرق أمني طاول القيادات العليا ودعوة مقاتلي الحزب للقتال حتى الموت، مما اعتبره العزي دليلاً على “حال يأس واستنزاف غير مسبوقة”، خصوصاً مع غياب أي دعم فعلي من إيران التي اكتفت برفع شعار “الصبر الاستراتيجي” من دون ترجمة عملية على الأرض.

وفي قراءة العزي، لم يكُن تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن “قائد المحور قتل” مجرد جملة عابرة، بل كان إعلاناً عن نهاية مرحلة كاملة، إذ إن غياب نصرالله يعني فقدان الحزب لدماغه المفكر ورمزه الأبرز. فالرجل لم يكُن مجرد قائد ميداني، بل كان يفاخر بامتلاك 100 ألف مقاتل و100 ألف صاروخ، ويتبنى شعار “وحدة الساحات” الذي جمع بين سوريا والعراق واليمن وغزة. فسقوطه، إن صحّت الرواية الإسرائيلية، يعني انهيار منظومة كاملة لا مجرد غياب شخصية فردية.

العزي ذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن “حزب الله” ليس المتضرر الوحيد، بل إن “المحور” بأكمله يواجه عملية تصفية ممنهجة بدأت باغتيال قادة حركة “حماس” في غزة والحوثيين في اليمن، وترافقت مع ضربات مركزة ضد مواقع حساسة.

ويكشف العزي عن أن إسرائيل تعتمد على بنك أهداف ضخم يصل إلى 200 ألف هدف، مما يفسر كثافة الضربات الجوية في جنوب لبنان منذ الاتفاق الأخير بين الحزب وتل أبيب برعاية أميركية. وهذا الاتفاق، بحسبه، سلّم عملياً منطقة جنوب الليطاني وترك “حزب الله” عاجزاً عن الرد الفاعل نتيجة الانهيار العسكري واللوجستي والرصد الإسرائيلي المكثف. ويشير أيضاً إلى المأزق الذي يعيشه الحزب مع بيئته الحاضنة، إذ إن التهديدات المتكررة دفعت السكان إلى النزوح والامتثال لتحذيرات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي بات يلقب بين الأهالي بـ”مختار الجنوب”، نظراً إلى تأثيره فيهم.

الحروب الحديثة

أما العميد المتقاعد جورج نادر، فيرى أن “العملية لم تكُن مجرد استعراض لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بل حصيلة مزيج دقيق من الجهد البشري والمراقبة المستمرة والتنسيق العالي بين الوحدات الاستخباراتية الإسرائيلية”.

وقال “لا يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي وحده نفذ الضربة”، مشيراً إلى أن “العملية كانت ثمرة تعاون بين الاستخبارات البشرية والتنصت والأقمار الاصطناعية والعملاء الميدانيين، وربما شارك فيها لبنانيون أو إيرانيون”.

ويتابع أن “السؤال الأبرز في الإعلام الإسرائيلي اليوم هو، كيف تمكنت إسرائيل من اختراق هذا العمق الأمني؟”. والجواب، برأيه، يكمن في جهد استخباراتي متكامل مخطط بدقة إلى درجة أن الضربة نفذت بفارق دقائق معدودة، بعدما أعطى نتنياهو بنفسه الضوء الأخضر فور التحقق من وجود نصرالله في الاجتماع. ويشرح نادر أن العملية اعتمدت على تقنيات تتبّع متقدمة جداً عبر الأقمار الاصطناعية والعملاء والذكاء الاصطناعي الذي حدد الموقع بدقة، فضلاً عن القوة التدميرية لسلاح الجو القادر على اختراق عشرات الأمتار تحت الأرض. ويشير إلى أن “الموقع حيث كان نصرالله موجوداً يقع على عمق 35 متراً، بينما اخترق الصاروخ 28 متراً فقط. ومع ذلك، تسببت قوة الانفجار والاختناق في مقتله من دون أن يصاب بجروح مباشرة”.

ويخلص نادر إلى أن “العملية تمثل نموذجاً جديداً في الحروب الحديثة، إذ يلتقي الذكاء الاصطناعي مع العمل البشري والاستخباراتي الميداني، لتنتج ضربة دقيقة ومنسقة بهذا الشكل”. ويختم بالقول إن “سياسة الاغتيالات ستستمر، إذ لم يعُد الاعتماد على الهواتف أو الأجهزة الإلكترونية شرطاً لتحديد الأهداف، بل تراقب القيادات لحظة بلحظة، وما أن يغادر الشخص موقعه حتى تقوم المسيّرات بتصفيته فوراً”.

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...