ميشال عون لم يكن قائدًا عاديًا في الجيش اللبناني، بل ظاهرة استثنائية في تاريخ المؤسسة العسكرية، تتجاوز حدود الانضباط إلى نزعة جامحة للسلطة، اتخذت من العناد وقودًا ومن الوهم مشروعًا. منذ صعوده المفاجئ إلى قيادة الجيش في 23 حزيران عام 1984، بتعيينٍ من الرئيس أمين الجميّل، بدا واضحًا أن المنصب لم يكن بالنسبة إليه تكليفًا وطنيًا، بل كان معبرًا نحو مجد شخصي مأزوم. كان يتحرك بدافع النزعة الشخصية لا بدافع الرؤية، يرفع الشعارات الكبرى: سيادة، تحرير وإصلاح ، بينما في العمق كان يسعى إلى تثبيت زعامة فردية لا تعترف إلا بصوتها، ولا ترى الوطن إلا من خلال مرآتها.
لقد عايشت تلك المرحلة بكل تفاصيلها ضابطًا ناشئًا في لواء الحرس الجمهوري، أؤمن أن الانضباط هو شرف الجندية، والالتزام واجب لا خيار. لم نكن نملك آنذاك رفاهية السؤال أو التمرد، ولا خبرةً تُتيح لنا قراءة ما يدور في كواليس السياسة. كنا نرى الوطن من نافذة الثكنة، لا من ممرات السلطة. واليوم، إذ أعود إلى تلك المرحلة بضميرٍ صافٍ، أقول إننا كنا جنودًا ننفذ، لا شركاء نقرّر. لم يكن خطأنا في الانضباط، بل في غياب الرؤية عمّا كنا نُنفذ ومن أجل مَن.
دخل ميشال عون قيادة الجيش من الباب السياسي لا العسكري، في مرحلة حرجة من التاريخ اللبناني. لم يكن الاختيار ثمرة مسيرة استثنائية أو تدرج طبيعي في مراتب القيادة، بل تسوية فرضتها الظروف، فجاءت النتيجة أخطر مما كان متوقعًا. ومنذ اللحظة الأولى، ظهرت ملامح الخطر: رجل يرى في الجيش وسيلة للوصول إلى القصر الجمهوري، لا مؤسسة وطنية لحماية الدولة.
كانت قراراته فردية وصدامية، تفتقر إلى أي رؤية استراتيجية أو مؤسساتية. وقد لمس كثير من الضباط المحيطين به، منذ وقتٍ مبكر، أن الرجل لا يسمع إلا صوته، ولا يثق إلا بحدسه، وكأن المؤسسة كلّها مجرّد امتداد لذاته. ومع مرور الوقت، بدأ يزرع الولاءات الشخصية داخل الجيش، محوّلًا القادة إلى تابعين، ومهمشًا كل من يجرؤ على نقاش أو اعتراض على قراراته، فكانت الكفاءة تُقصى لصالح الولاء، والعقل يُستبدل بالشعارات، والمؤسسة تتحول تدريجيًا إلى دائرة ضيقة تُدار بالعاطفة لا بالعقيدة العسكرية.
حين شُكّلت الحكومة العسكرية الانتقالية في اللحظات الأخيرة من عهد الرئيس أمين الجميّل، في 22 أيلول 1988، برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون وعضوية الضباط الستة في المجلس العسكري، بدا وكأنه يحقق حلمه التاريخي. لكن الحلم سرعان ما تحوّل إلى كابوس وطني. في القصر الجمهوري، جلس الجنرال على كرسي الرئاسة في ظلّ فراغ دستوري كامل، بعدما فشل مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتنازعت الشرعية بين حكومتين: واحدة مدنية برئاسة سليم الحص، وأخرى عسكرية يرأسها عون، لتبدأ مرحلة جديدة من الانقسام العميق في مؤسسات الدولة وفي الشارع اللبناني على حدّ سواء.
تحصّن الجنرال محاطًا بدائرة ضيقة من المستشارين والضباط الذين يرددون ما يريد سماعه، بينما البلاد كانت تغرق في أتون الحرب والانقسام. رفع شعار “تحرير لبنان من الاحتلال السوري”، لكن الواقع أن الحرب لم تكن سوى محاولة للانتقام من خصومه الداخليين وإثبات الزعامة بالقوة.
كلّنا كنا نعلم أن الإمكانات العسكرية لم تكن تسمح بخوض حربٍ ضدّ الجيش السوري المنتشر بكثافة في لبنان، لكن الجنرال لم يكن يسمع. صدرت الأوامر، واشتعلت المدافع في الرابع عشر من آذار 1989، لتُفتح صفحة ما عُرف بـ “حرب التحرير”.
تساقطت القذائف على رؤوس المدنيين في الأشرفية وبعبدا والضاحية، وفي الحدث وسن الفيل والدكوانة، على السواء. لم تَسلم منطقة من نيران المدفعية المتبادلة بين الجيش اللبناني والقوات السورية، وسرعان ما تحوّلت المعارك إلى مواجهة عبثيّة دفع اللبنانيون ثمنها دمًا ودمارًا وتهجيرًا.
لقد شاهدتُ بأمّ عيني كيف كانت القرارات تُتخذ أحيانًا بلا خطةٍ واضحة، بل بدافع الغضب أو الكبرياء العسكري الجريح، فيما كانت البلاد تتهاوى والمؤسسات تتفكّك، والناس يعيشون على وقع أصوات الانفجارات لا على أمل الخلاص.
وكأن ما فعله في حرب التحرير لم يكن كافيًا، قرّر أن يخوض حربًا جديدة، هذه المرة ضد “القوات اللبنانية”، القوة العسكرية والسياسية الأساسية في الساحة المسيحية آنذاك. لم تكن تلك مواجهة بين جيشين، بل اقتتالًا داخليًا بين أبناء البيت الواحد، بين من يُفترض أنهم أبناء القضية ذاتها. فالجنرال الذي اعتبر نفسه الزعيم الأوحد للمسيحيين لم يحتمل وجود قوة موازية لسلطته، فاختار إخضاعها بالقوة بدل التحاور معها.
اندلعت المعارك في الأشرفية، فرن الشباك، وعين الرمانة، وسقط المئات من المقاتلين والمدنيين، فيما كان السوري يراقب من بعيد ويصفق لانهيار آخر ما تبقى من “المنطقة الحرّة”.
لكن الأخطر أن هذه الحرب اندلعت في لحظةٍ كانت فيها الميليشيات الموالية لسوريا والفصائل الفلسطينية تُحكم قبضتها على معظم المناطق اللبنانية، وتشكل الخطر الأكبر على الوجود المسيحي نفسه. ومع ذلك، وجّه ميشال عون سلاحه إلى الداخل بدل العدو الحقيقي، فكانت حربًا عبثية بكل المقاييس: سياسيًا، ووطنيًا، ووجوديًا. وبدل أن يوحّد الصفوف في وجه المشروع السوري، قسّم البيت المسيحي بيده، وأضعف الموقف السيادي الذي كان يفترض أن يتكاتف الجميع لحمايته.
لقد كانت تلك الحرب خطيئة كبرى في الوجدان المسيحي والوطني، إذ أدّت إلى انقسام عميق في الجسم الذي صمد طويلًا بوجه الاحتلال والوصاية، وفتحت الطريق أمام انهيار الحلم الذي حملته “المنطقة الشرقية” كرمز للحرية والسيادة. ومع مرور الزمن، لم تندمل جراح تلك المرحلة، بل ظلّ “الجرح الذي لم يلتئم” شاهدًا على لحظةٍ مأسوية غيّرت مسار التاريخ، وتركَت أثرًا نفسيًا وسياسيًا ما زال يتردد حتى اليوم، إذ يعيش اللبنانيون إلى الآن تداعيات تلك القرارات الخاطئة، في ذاكرةٍ جماعية لم تتصالح بعد مع ماضيها، ولا مع من أشعل نار الأخوّة بالرصاص بدل المصالحة بالكلمة.
ومع تصاعد المواجهات تحوّل القصر الجمهوري إلى غرفة عمليات تُدار منها حرب عبثية ضد رفاق السلاح، فقط لأن الجنرال لم يكن يقبل أن يُشاركه أحد القرار أو الزعامة. وهكذا، بدل أن يوحد الصف المسيحي في وجه الاحتلال، قسّمه بيده، فكانت حرب الإلغاء بداية الانحدار الكبير الذي أنهك الجبهة الداخلية وأضعف “المنطقة الحرة”. ومع مرور الأشهر وتفاقم العزلة السياسية والعسكرية، أصبح الطريق ممهدًا أمام التدخل السوري المباشر، الذي تُوِّج بدخول الجيش السوري إلى بعبدا في الثالث عشر من تشرين الأول عام 1990.
يومها، كانت كل المؤشرات تنذر بالكارثة. فالموفدون والوسطاء الذين سعوا في اللحظات الأخيرة لتجنب المواجهة، حاولوا إقناع ميشال عون بوقف المغامرة العسكرية التي ستقضي على ما تبقى من “المنطقة المحرّرة”، وتفتح أبوابها للجيش السوري. رسائل وتحذيرات واتصالات وُجّهت إليه من شخصيات لبنانية وعربية ودبلوماسية، كلها تدعوه إلى التراجع، إلى تغليب العقل على العناد. لكن الكبرياء السياسي والتسلّط الشخصي كانا أقوى من كلّ صوت ناصح.
وفي فجر ذلك اليوم المشؤوم، نفذ الجيش السوري هجومًا جوّيًا وبرّيًا واسعًا على قصر بعبدا ومحيطه، وسط انهيار خطوط الدفاع وانسحاب الوحدات الموالية لعون لينتهي المشهد بمأساة وطنية مع هروب الجنرال إلى السفارة الفرنسية، تهاوت “المنطقة الحرّة” وتفككت كل أوهام القيادة المنفردة، ليتمكّن الجيش السوري من دخول القصر الجمهوري، منهيًا بذلك صفحة طويلة من الحرب وبداية مرحلة جديدة من الوصاية.
كانت تلك اللحظة أكثر من سقوط سياسي أو عسكري؛ كانت سقوطًا معنويًا لمشروعٍ حمل آمال اللبنانيين بالحرية والسيادة والاستقلال. ومنذ ذلك اليوم، بقي الثالث عشر من تشرين الأوّل جرحًا مفتوحًا في الذاكرة اللبنانية، رمزًا لعنادٍ شخصي أطاح بفرصة الإنقاذ، ولحلمٍ انهار تحت ثقل القرار الخاطئ تاركًا وراءه آلاف الضحايا والمفقودين، وجيشًا منكّس الرأس، ووطنًا جريحًا.
لكنه لم يغادر المشهد السياسي فعليًا، بل بدأ من منفاه أخطر مرحلة من مشروعه الشخصي: مرحلة بناء “الزعيم المنقذ” الذي سيعود يومًا على حصان أبيض.
في باريس، لم يكن عون مجرد لاجئ سياسي، بل ورقة لبنانية في يد السياسة الفرنسية.
نسج علاقات مع شخصيات فرنسية مؤثرة، وبدأ يتحدث بلسان “المسيحي الحرّ” في مواجهة “الاحتلال السوري”، محاولاً أن يمنح نفسه شرعيةً خارجية كان قد فقدها في الداخل.
لكن تلك العلاقات كانت مبنية على مصالح متبادلة: فرنسا استخدمته كورقة ضغط على النظام السوري، وهو استخدمها لتلميع صورته أمام اللبنانيين.
خمسة عشر عامًا قضاها عون في المنفى، لم تكن انقطاعًا عن المشهد، بل استمرارًا له في صورة أخرى. فقد ظل الرجل يطل من باريس كمنفي لا يهدأ، يغذي ذاكرة أنصاره بخطاب شعبوي لا يشيخ، ويعيد تشكيل وعي جيل جديد على سردية “المنقذ المظلوم”. وكأن خمسة عشر عامًا من الغياب لم تمر إلا لتثبت له أنه كان على حق.
حين انسحب الجيش السوري من لبنان عام 2005، عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عاد ميشال عون من منفاه الفرنسي بعد خمسة عشر عامًا، وسط موجة واسعة من التعاطف الشعبي، رُفعت خلالها شعارات الأمل بالتغيير والإصلاح. غير أن تلك الموجة لم تلبث أن انحسرت سريعًا، بعدما تكشف الوجه الحقيقي للعماد العائد، وسقطت الأقنعة أمام واقع التحالفات والمصالح.
بدل أن ينضم إلى حركة 14 آذار المطالبة بالسيادة، اختار التحالف مع “حزب الله”، ممثل النفوذ السوري والإيراني في لبنان.
كان “تفاهم مار مخايل” عام 2006 نقطة التحوّل الكبرى: وضع عون توقيعه على ميثاق تبعية سياسية ألغى كل ما تبقى من شعاراته السابقة.
منذ تلك اللحظة الجنرال الذي رفع شعار “لبنان حرّ سيّد مستقل” أصبح “شعب جيش ومقاومة ” وشريكًا في رهن القرار اللبناني للمحور الإيراني – السوري.
وفي المقابل، حصد ما حلم به طيلة عقود: رئاسةَ الجمهورية عام 2016، بدعم مباشر من “حزب الله”، بعد أن تعطّلت انتخابات الرئاسة لأكثر من سنتين بفعل إصرار “الحزب” على إيصال ميشال عون إلى قصر بعبدا، ولو على حساب الدستور والمؤسسات.
حين وصل ميشال عون إلى قصر بعبدا رئيسًا للجمهورية، اعتقد كثيرون أن الرجل الذي رفع شعارات “الإصلاح والتغيير” سيعيد هيبة الدولة ويؤسس لعهدٍ جديد من الشفافية والمحاسبة. غير أن السنوات الست من حكمه كانت نقضًا كاملًا لمفهوم الدولة.
فقد ظن اللبنانيون أن الزمن أنضج الرجل، وأن التجارب علّمته معنى الدولة، لكن الوقائع كشفت العكس. عادت النزعة ذاتها بثوبٍ جديد: السلطة قبل الدولة، الولاء قبل الكفاءة، والعائلة قبل الوطن. وفي عهده بلغت الانهيارات ذروتها؛ انهار الاقتصاد، تفككت المؤسسات، سقطت الليرة، وغرق الشعب في عتمةٍ من العوز واليأس غير مسبوقة.
لم يكن الانهيار المالي سوى الوجه الأخير لانهيارٍ أعمق، بدأ يوم تحوّل الحكم إلى امتدادٍ للزعامة، والدولة إلى مساحةٍ لتصفية الحسابات.
منذ الأيام الأولى للعهد، تبيّن أن القرار السياسي والاقتصادي لم يعد يصدر عن مجلس الوزراء، بل من “حلقةٍ ضيّقة” تمسك بمفاتيح الدولة:
عون في بعبدا، باسيل في ميرنا الشالوحي، و”حزب الله” في الضاحية.
هذا الثلاثي حوّل المؤسسات إلى أدواتٍ لتكريس النفوذ، فيما كانت البلاد تتهاوى.
لم يكن باسيل مجرد صهر الرئيس، بل امتدادًا لسلطته وأداته في فرض الزعامة داخل الطائفة المارونية. غدا اسمه مرادفًا لنهجٍ قائمٍ على الزبائنية والمحسوبية، فيما غرق لبنان في العتمة والديون، وانهارت الخدمات، واستُنزف المال العام في الصفقات والتعيينات.
قدّم عون الغطاء السياسي الكامل لسلاح “حزب الله”، فتعطّلت مؤسّسات الدولة وتهاوى مفهوم السيادة تحت وطأة السلاح غير الشرعي وهيمنة القرار المفروض بالقوة. ومع كل تسوية وغطاء، كانت الدولة تنكمش أكثر، حتى تحوّلت إلى ظلّ فاقدٍ لسلطته وهيبته. وبلغ الانهيار ذروته في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، الكارثة التي اختزلت عقودًا من الفشل والفساد والتواطؤ، وعرّت الدولة أمام شعبٍ منكوبٍ بوطنه.
لم يكن ميشال عون وحده مسؤولًا عما وصل إليه لبنان. فالمنظومة التي أعادته إلى السلطة هي نفسها التي صنعت قبله زعماء كثيرين ثم أحرقتهم، والنظام السياسي الذي سمح له بالحكم هو ذاته الذي كرّس الطائفية والفساد عبر عقود. لكن خطيئته الكبرى أنه أضفى على الانهيار شرعية الرئاسة، وأعطى للفشل غطاء الإصلاح. وهكذا، اكتمل المشهد: الجنرال الذي حلم بقيادة الوطن انتهى إلى رئاسة وطن بلا مؤسسات، وشعب فقد ثقته بكل من رفع شعار الإنقاذ.
من قيادة الجيش إلى حرب التحرير، فحرب الإلغاء، وانتهاءً بحرب الثالث عشر من تشرين الأول، ثم إلى المنفى والتحالفات، وصولًا إلى الرئاسة، ظلَّ النمط واحدًا : تفرد بالقرار، تجاهل للمؤسسات، ومصلحة شخصية فوق الوطن.
العسكريون، الذين شكّلوا عماد الجيش ودرع الوطن، كانوا أول من دفع ثمن الغرور الشخصي والسياسات الخاطئة. فقد خسروا رفاقهم في الحروب، ثم خسروا لاحقًا أمنهم المعيشي وكرامتهم مع الانهيار الاقتصادي والمالي. تآكلت رواتبهم وتراجعت مكانتهم، من دون أي حماية حقيقية من القيادة التي يفترض أن تصونهم. وهكذا تُركت المؤسسة العسكرية، الضمانة الأولى لاستقرار لبنان، تواجه مصيرها وحيدة في زمنٍ ضاع فيه الإخلاص وغاب الالتزام الحقيقي بالدولة.
على صعيد الدولة، أظهر العهد ضعفًا في إدارة الشأن العام، فسادًا مؤسساتيًا، وتحالفات مشبوهة أضعفت السيادة الوطنية، وأدّت إلى تآكل بنيان الدولة، بما في ذلك الرئاسة والحكومة والقضاء، وانهيار الاقتصاد، ما ترك اللبنانيين في أزمة مستمرة لا تزال آثارها تلقي بظلالها حتى اليوم.
ولا يمكن إغفال البعد الشعبي والسياسي لما خلّفه عهد عون من خيبات متراكمة. فقد “التيار الوطني الحر” جزءًا كبيرًا من رصيده الشعبي الذي كان يومًا يستمدّه من شعارات الإصلاح والسيادة والتغيير، فإذا به يتحوّل إلى حزب سلطويٍ يبرّر الفشل بالظروف ويتذرّع بالآخرين. ومع مرور السنوات، تآكلت الثقة بصفوف مناصريه أنفسهم، بعدما تكشف حجم التناقض بين الشعارات والممارسات، وبين الخطاب الأخلاقي والتحالفات المصلحية التي عقدها التيار حفاظًا على نفوذه لا على مبادئه.
وتحوّلت تحالفاته من “تكتيكية” إلى “انتهازية”، مرّةً مع خصومه التاريخيين، ومرّاتٍ مع قوى نقيضة لخطابه السيادي، بحثًا عن مكاسب ظرفية ومقاعد نيابية. فالتسويات التي رُوّج لها على أنها “حماية للحقوق المسيحية” انكشفت أنها مجرد حسابات شخصية ضيّقة تهدف إلى تثبيت زعامة عائلية على حساب المصلحة الوطنية.
واليوم، ومع اقتراب الانتخابات النيابية في أيار 2026، تبدو المؤشرات واضحة: “التيار” يواجه أزمة وجودية حقيقية، بعدما فقد الثقة الشعبية التي كانت أساس قوته، وبات يدفع ثمن كل تسوية عقدها على حساب الدولة والمؤسسات. فالجمهور الذي منحه يومًا صوته، لم يعد يرى فيه حركة إصلاحية بل مشروع سلطةٍ يقدّم الولاء للمحور على حساب لبنان.
القارئ اللبناني اليوم أمام حقيقة واضحة: القيادات الحكيمة هي التي تحمي مصالح شعبها، ولا تضحّي بالمؤسسات والموارد الوطنية من أجل الزعامة الفردية أو التحالفات المشبوهة.
هذه الشهادة هي دعوة للتفكير التاريخي الجاد، لفهم كيف يمكن للغرور الشخصي والزعامات الانفرادية أن تهدر دماء الأبطال، تهدم مؤسسات الوطن، وتقوّض أي أمل بالإصلاح الحقيقي.
وفي الختام، يبقى الدرس واضحًا لكل الأجيال: القيادة الحقيقية لا تُقاس بالشعارات الرنانة ولا بالقدرة على السيطرة على المؤسسات، بل بمدى الوفاء للشعب وحماية كرامته وصون الدولة من العبث والانهيار.
أما الزعامات التي جعلت من الوطن مرآةً لغرورها، ومن السلطة وسيلةً لتقديس الذات، فقد حكمت على نفسها بالعزلة والموت المعنوي، ولو بقيت في المناصب.
لبنان لا يُهزم حين تتكاثر أزماته، بل حين يفقد قادته ضميرهم الوطني، ويتحوّل القرار إلى سلعةٍ في سوق الصفقات.
التاريخ لا يرحم من شوّه فكرة الدولة، ولا يصفح عمّن حوّلها إلى مزرعةٍ خاصةٍ أو حصنٍ لطائفته.
لكن رغم كل السقوط، يبقى الأمل في وعي الناس، في انتفاضتهم الهادئة ضد الزيف، وفي إيمانهم بأنّ الوطن لا يُختزل بشخص، بل يُبنى بإرادةٍ جماعيةٍ صادقة.
ويوماً ما، حين تستيقظ ضمائر اللبنانيين على حقيقة أن الدولة ليست غنيمة بل مسؤولية، سيسقط كل من استقوى بالكرسي، وتنهض الجمهورية من بين ركامها لتستعيد وجهها الذي يليق بتاريخها وشعبها.
ميشال عون: من جنون القيادة إلى انهيار الجمهورية .






