أظهر الحدث الكبير الذي شهدته المنطقة في بداية الأسبوع الحالي، مع انتهاء حرب غزة، وتنظيم “قمة شرم الشيخ للسلام” برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحضوره، أن منطقة الشرق الأوسط انتقلت انتقالاً حاسماً من واقع ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 (عملية طوفان الأقصى وبدء حرب غزة) إلى واقع جديد صيغ بالحديد والنار على مدى عامين متتاليين.
الشرق الأوسط اليوم مختلف تماماً عما كان عليه قبل أن تقوم حركة “حماس” بهجومها على منطقة غلاف غزة، وتقتل أكثر من 1200 إسرائيلي، فاتحة بذلك الباب أمام أكثر حروب الشرق الأوسط شراسة ودموية وعنفاً منذ الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى عام 1948.
ولعل أهم المتغيرات الجيوسياسية التي يمكن ملاحظتها هو هذا التغيير الحاصل على مستوى نفوذ إحدى أهم القوى الإقليمية في العقود الأربعة الماضية وقوتها، ونعني بذلك إيران التي خرجت من هذه التجربة أو المغامرة، مثخنة بجراح عميقة على كل المستويات؛ فـ”الجمهورية الإسلامية” التي برزت منذ قيامها سنة 1979، وصلت على ما يبدو إلى مفترق طرق خطير، يعتبره بعض المراقبين الدوليين أنه يُحتمل جداً أن يكون بمثابة بداية الطريق نحو نهاية النظام الإيراني كما عرفته المنطقة والعالم في الأعوام الماضية. فهيبة النظام وقياداته العليا، بدءاً من المرشد علي خامنئي، في حالة تآكل متسارع. ومع مرور الوقت بعد انتهاء حرب الأيام الـ12 بين إيران وإسرائيل في شهر حزيران/يونيو الفائت، يلمس المراقبون مؤشرات إلى ازدياد ضعف النظام في الإقليم، مع ترسخ الخسائر الجيوسياسية الفادحة التي مُني النظام بها خلال العامين الماضيين، من سوريا إلى لبنان وغزة، ومن اليمن إلى العراق.
فاستراتيجية “وحدة الساحات” التي كانت قيادتها قد أُوكلت إلى الأمين العام السابق لـ”الحزب” السيد نصر الله، انهارت تماماً مع انهيار ما كان يسمى بـ”الكوريدور الإيراني” الذي كان يصل إيران بلبنان وغزة عبر العراق وسوريا. هذا الممر سقط في سوريا ولبنان وغزة، وازداد هشاشة في العراق نفسه. وهنا من غير المفيد التوقف عند البروباغاندا الرسمية للنظام الإيراني التي تُغرق الفضاء الافتراضي في المنطقة بأناشيد الانتصارات، وهي واقعياً انتصارات وهمية. فطهران الحالية تحت سلطة النظام هي صورة باهتة لطهران قبل أن تلحق بها سلسلة الضربات الاستراتيجية التي قلبت صورتها رأساً على عقب.
وإذا ما قاطعنا مجموعة عناصر في ما بينها، لخرجنا باستنتاج شبيه بما خرج به الباحث في “معهد كارنيغي” في واشنطن كريم سجادبور الذي وضع عنواناً معبّراً لمقالته المطولة عن الواقع الإيراني المستجد بعد حرب غزة. فقد كتب مقالته البحثية والاستشرافية (8 آلاف كلمة) قبل أيام في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، تحت عنوان “خريف آية الله”، حيث توقف عند فكرة رئيسية استهلّ بها مقالته فكتب: “للمرة الأولى منذ ما يقارب أربعة عقود، تقف إيران على أعتاب تغيير في القيادة، وربما حتى النظام نفسه. ومع اقتراب عهد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي من نهايته، كشفت حرب استمرّت اثني عشر يوماً في شهر حزيران/يونيو هشاشة البنيان الذي أقامه. فقد قصفت إسرائيل المدن والمنشآت العسكرية الإيرانية، ممهّدة الطريق أمام الولايات المتحدة لإلقاء أربع عشرة قنبلة خارقة للتحصينات على المواقع النووية الإيرانية. أظهرت الحرب الهوة الواسعة بين الخطاب الأيديولوجي الصاخب في طهران، والقدرات المحدودة لنظام فقد الكثير من نفوذه الإقليمي، ولم يعد يسيطر على أجوائه، ويمارس سيطرة متناقضة في شوارعه. وفي ختام الحرب، خرج خامنئي البالغ من العمر ستة وثمانين عاماً، من مخبئه بصوت مبحوح ليعلن “النصر”، في مشهد أراد به إظهار القوة، لكنه في الواقع كشف عن ضعف النظام وهشاشته”. ويضيف سجادبور تساؤلاً لافتاً فيقول: “في “خريف المرشد”، يتمحور السؤال الجوهري عما إذا كان النظام الثيوقراطي سيستمر، أم سيتحوّل، أم سينهار (…)”!
مقالة كريم سجادبور جديرة بأن تُقرأ بعناية لأنها تتضمن مجموعة سيناريوهات لما يمكن أن يكون عليه التحول في إيران. والتحول الآتي إلى إيران بسرعة كبيرة منبعه هذه الضربة الكبيرة التي تلقتها استراتيجيتها الإقليمية في العامين الماضيين. وقناعتنا بأنه بات من الصعب بمكان أن يقوم النظام الإيراني من كبوته لأن ما حصل كبير جداً. وإذا ما أخذنا أيضاً في الاعتبار الوضع الداخلي الصعب على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وخصوصاً ما يرتبط بنمط الحياة الذي تطمح إليه شريحة كبرى من الشباب الإيراني، فإن مرحلة ما بعد خروج المرشد الأعلى من المسرح ستكون بمثابة إشارة للافتراق الكبير عن العقود الأربعة الأخيرة في تاريخ إيران!
ما بعد غزة: خريف إيران الإقليمي! .




