قبل أقلّ من أسبوع، كانت إسرائيل تتّجه في لبنان نحو تصعيدٍ عسكريٍّ ملحوظ، مرشَّحٍ للتطوّر إلى مواجهةٍ واسعة تمتدّ إلى العمق اللبناني، وتحديدًا الضاحية الجنوبية، بعدما توافرت معلومات لدى الاستخبارات الإسرائيلية تفيد بأنّ “حزب الله” يواصل تسليح نفسه، وقد تمكّن من تهريب مئات الصواريخ عبر الحدود السورية.
وتلقائيًا، أبلغت تل أبيب الإدارةَ الأميركية في واشنطن بالتطوّرات الجديدة. وتشير المعلومات الواردة من مصادر ديبلوماسية لبنانية مقيمة في واشنطن إلى أنّ إسرائيل كانت مصمّمة على التدخّل عسكريًا في لبنان، معتبرةً أنّ خطة الجيش اللبناني بطيئة وغير فعّالة، بل ذهب الإسرائيليون أبعد من ذلك، متّهمين الجيش بالتواطؤ مع “الحزب” أو التماهي معه.
لا شكّ في أنّ هذه المعطيات رافقتها عملياتٌ عسكريةٌ إسرائيلية اتّخذت منحًى تصعيديًا كاد يفجّر الأوضاع في لبنان ويُوقع البلاد في فخّ حربٍ جديدة تهدف إلى القضاء نهائيًا وبسرعة على قدرات “الحزب”. وليس هذا مستغرَبًا من حكومة بنيامين نتنياهو التي ارتاحت نسبيًا على الجبهة الجنوبية في قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار مع حركة “حماس”، وبدأت تُخفّف من قوّاتها هناك وتحشد أكثر على الجبهة الشمالية، مع مناوراتٍ تحاكي حربًا على لبنان.
لم تتأخّر واشنطن في التحرّك ديبلوماسيًا بالتنسيق مع القاهرة، وخصوصًا أنّ اهتماماتهما تبدو متشابكة بعد التعاون في تنفيذ خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قطاع غزة. فأوفدت الإدارة الأميركية المبعوثة مورغان أورتاغوس إلى الشرق الأوسط من جهة، بينما أوفدت مصر رئيس المخابرات العميد حسن رشاد من جهة أخرى.
وتفيد المعلومات الصادرة عن المصادر الديبلوماسية بأنّ تحرّك الموفدين كان محصورًا بين إسرائيل ولبنان، على نحوٍ طارئٍ ومستعجل، للجم مخاطر الحرب، وخصوصًا أنّ التصعيد الإسرائيلي كان يتزايد يومًا بعد يوم، وكادت الأمور تخرج عن السيطرة.
من جهتها، وضعت إسرائيلُ الجانبين الأميركي والمصري أمام رغبتها في توسيع العمليات العسكرية في لبنان. ولفتت المصادر الديبلوماسية إلى أنّ أورتاغوس ورشاد طلبا منح الجهود الديبلوماسية فرصةً قبل المضيّ في توسيع الحرب.
أورتاغوس تستمهل نتيناهو
تمكّنت أورتاغوس من إقناع نتنياهو بأنها ستنتزع ورقةً مهمّة من السلطات اللبنانية تتمثّل في بدء حوارٍ مباشرٍ مع إسرائيل. وكان هذا الموضوع الطبقَ الأساسي في لقاءاتها مع الرؤساء اللبنانيين الثلاثة: جوزاف عون، ونواف سلام، ونبيه بري، انطلاقًا من إيمان الولايات المتحدة بأنّ لا سبيل لتحسين الوضع على الأرض إلا من خلال حوارٍ أوسع بين إسرائيل ولبنان.
وتكشف المصادر الديبلوماسية أنّ عون كان مرحّبًا بمبادرة أورتاغوس، إلّا أنّه تمسّك بمطلبٍ وحيدٍ وأساسيّ هو إبعاد كأس الحرب المرّة عن لبنان. في المقابل، ركّزت أورتاغوس على الآلية العملية للتفاوض المرتقب، مقترحةً توسيع لجنة “الميكانيزم” لتضمّ ديبلوماسيين لبنانيين وربما وزراء من الحكومة اللبنانية، على أن يشمل نطاق صلاحياتها جميع الحدود اللبنانية لا الجنوبية فقط.
ولفتت المصادر إلى أنّ أورتاغوس طلبت بشدّة من الرؤساء الثلاثة، ولا سيّما عون، معالجة مسألة إعادة “الحزب” تسليح نفسه ومنع تهريب الصواريخ عبر الحدود السورية، مثنيةً على جهود الجيش اللبناني التي يجب أن تكون أكثر فاعلية، بحسب قولها.
وأكدت المصادر الديبلوماسية المقيمة في واشنطن أنّ أورتاغوس نجحت في ثني إسرائيل عن توسيع التصعيد، إلا أنّ الجانب الإسرائيلي لم يتعهّد بوقف العمليات العسكرية التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، ولو بوتيرةٍ متقطّعة ومحدودة، مبرّرًا ذلك بمحاولات “الحزب” إعادة تأهيل بنيته العسكرية.
كانت أورتاغوس واضحة، وفق المصادر، بأنّ الولايات المتحدة تنتظر من الجيش اللبناني إنهاء تنفيذ خطّته بحلول نهاية العام، بحيث يكون قد أتمّ نزع سلاح “الحزب” نهائيًا جنوب نهر الليطاني. وربما تكون هذه الفرصة الأخيرة أمام الحكومة اللبنانية لإثبات قدرتها على بسط سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية بقدراتها الذاتية، إذ لمّحت أورتاغوس للمسؤولين إلى أنّ الرعاية الدولية لإمكانية لجم إسرائيل ستتراجع بعد نهاية عام 2025، وقد تُقدِم إسرائيل، إذا استمرّ “الحزب” بالنهج نفسه، على تنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ محدّدة وحاسمة ضدّه بهدف إنهاء خطر سلاحه بالكامل.
إصرار على مفاوضات مباشرة
في الحقيقة، ما قامت به أورتاغوس في لبنان يُعبّر عن استراتيجية الإدارة الأميركية التي تركّز على وجوب قيام محادثاتٍ مباشرة بين لبنان وإسرائيل، لما قد يَنتج عنها من حلٍّ لعددٍ كبيرٍ من المشاكل العالقة بين الدولتين، وربما تُشكّل خطوةً مهمّة في إطار مشروع السلام الذي يسعى إليه ترامب. وترى المصادر الديبلوماسية أنّ عكس ذلك، في نظر الإدارة الأميركية، لن يؤدي إلا إلى خيار الحرب والدمار والقتل.
في موازاة زيارة أورتاغوس، كان المبعوث المصري حسن رشاد يقوم بمهمةٍ منسّقة مع واشنطن لإبعاد شبح الحرب عن لبنان، قادمًا من إسرائيل بعد لقائه نتنياهو، وحاملًا رسالةً مستعجلة إلى الرئيس عون مفادها أنّ إسرائيل مصمّمة على إنهاء القدرات العسكرية لـ”الحزب”.
وأشارت المصادر الديبلوماسية نفسها إلى أنّ المقاربة المصرية تنطلق من هاجسٍ عربيٍّ وإقليميّ، إذ ترى القاهرة أنّ أيّ بؤرة توتّر في المنطقة تؤثّر على الأخرى، وأنّ تفلّت الوضع في جنوب لبنان قد ينعكس على الهدنة في قطاع غزة. لذلك بادرت إلى إرسال رشاد، مستفيدةً من علاقاته بالمسؤولين الإسرائيليين، لمنع لبنان من الانزلاق إلى صراعٍ شامل.
ولم تؤكّد المصادر ما إذا كان الموفد المصري قد التقى قياداتٍ من “الحزب”، لكنها لم تستبعد ذلك، نظرًا إلى قدرة مصر على التواصل مع جميع الأطراف. وهي تعتبر استقرار لبنان جزءًا من الأمن الإقليمي الأوسع، لا مجرّد علاقةٍ ثنائية، وتحافظ على تنسيقٍ أمنيٍّ وثيقٍ مع بيروت.
تتوجّس مصر، بحسب المصادر الديبلوماسية، من أيّ تطوّرٍ عسكري في غزة أو الجنوب السوري أو جنوب لبنان وشمال إسرائيل، والعكس صحيح. وهي تولي هذه الملفات أهميةً كبرى، معتبرةً أنّها تُشكّل تهديدًا للأمن القومي المصري، لأنّ أيّ تصعيدٍ إقليمي قد يُقوّض ترتيبات “اليوم التالي” في غزة ويهدّد طرق الشحن في شرق البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس.
أما الهدف الثاني للقاهرة فهو الحفاظ على المكاسب التي تحقّقت عبر مسار غزة منذ تعيين رشاد رئيسًا للمخابرات المصرية في تشرين الأول 2024 خلفًا لعباس كامل، إذ لعبت القاهرة دورًا محوريًا في ضمان ومراقبة الاتفاقيات الأمنية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
وتلفت المصادر إلى أنّ رشاد ركّز في محادثاته مع المسؤولين اللبنانيين على المخاوف الإسرائيلية من استئناف “الحزب” بناء ترسانته العسكرية، مقترحًا إطارًا عمليًا للعودة إلى التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 1701، بما يشمل وقف الأعمال العدائية وإنشاء مناطق خالية من السلاح جنوب الليطاني، وتعزيز دور “اليونيفيل”، ما يمنع نشوب صراعٍ واسع النطاق دون فرض ضغوطٍ سياسية على بيروت. وترى المصادر الديبلوماسية أنّ اجتماع رشاد الأخير مع نتنياهو وضع مصر في موقع الوسيط الموثوق القادر على “اختبار النوايا” ونقل “رسائل الخطوط الحمراء” بين الجانبين.
الهدف المصري البعيد المدى هو السعي إلى دورٍ مزدوجٍ جديد: المشاركة الفاعلة في عملية شرم الشيخ ومتابعة ملف غزة، والانخراط في الملف اللبناني لتحقيق الاستقرار في المنطقة ومنع تداخل الجبهات. وتكشف المصادر أنّ زيارة رشاد فتحت قناةً جديدة للحوار بين بيروت وتل أبيب بوساطةٍ مصرية، وقد تمثّل خطوةً أولى نحو التزامٍ بوقف إطلاق النار يخدم مصالح جميع الأطراف ويخفّف الضغط عن جنوب لبنان.
كيف لجمت واشنطن والقاهرة توسّع التصعيد الإسرائيلي؟ .


 
															
