بعيدًا من الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على لبنان وما يرافقها من تهويل بحرب كبرى جديدة، وبعيدًا من السجالات المستمرة حول حصرية السلاح بيد الدولة تنفيذًا لقرار الحكومة والقرارات الدولية، وبعيدًا أيضًا من المناكفات السياسية حول اقتراع المغتربين وما يرافقها من تحليلات حول احتمالات تأجيل الانتخابات المرتقبة في أيار المقبل، وكذلك بعيدًا من الأزمة الاقتصادية المستمرة والودائع وأقساط المدارس والجامعات.. هنيئًا للبنانيين بقرار مجلس الوزراء في 23 تشرين الأول بتعيين أعضاء الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء، على أمل أن تنفّذ هذه الهيئة ما هو مطلوب منها صار الوقت أن نفكر بصحة الإنسان في بلد تتآكله الأزمات على المستويات كافة.
فقد أعادتنا القضية المفتعَلة التي أثيرت مؤخرًا ضد شركة مياه تنورين بالذاكرة الى سنوات خلت، عندما كان اللبنانيون يتابعون بدقة وبشكل يومي نشاط وزير الصحة الاستثنائي وائل أبو فاعور. فقد أحدث هذا الوزير النشيط نقلة نوعية في مجال الرقابة على المنتجات الغذائية حتى أصبحت عبارته الشهيرة “غير مطابق للمواصفات” بمثابة “تراند” على كل شفة ولسان، وشكلت بوصلة للمواطن ليتحقق من جودة المنتجات التي يحملها الى منزله.
وبالرغم من تندّر البعض على هذه العبارة، لدرجة إلصاق بعض التهم الباطلة بالوزير من قبل المتضرّرين، فقد أثبت أبو فاعور في حينه أنه كان النقطة الوحيدة المضيئة ربما في ذاك الزمن الرديء.
إلا أن الأهم في مراقبة سلامة الغذاء يبقى في تتبع سلسلة الإنتاج، من المواد الأولية التي تصل الى المصنع وصولًا الى الطعام على مائدة المستهلك، وما بينهما.
ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع ليس الدفاع عن شركة تنورين التي تعرّضت للظلم بالتأكيد، بل لأنني شاهدت بأم العين، وبالصدفة المحضة، كيف يمكن أن تحصل الأخطاء التي غالبًا ما يدفع ثمنها المستهلك.
عند الثامنة صباحًا، وبينما كنت أنتظر صديقًا في موقف لسوبرماركت كبيرة ومعروفة، صودف أن ركنت سيارتي مقابل مدخل المخزن حيث يتم تسلّم البضائع. بعد قليل وصلت شاحنة مبرّدة تحمل الدجاج ومشتقاته. أطفأ السائق محرّك الشاحنة، فتح باب الصندوق الخلفي وأنزل عددًا من الصناديق الممتلئة بالدجاج، ووقف ينتظر الموظف ليتسلّم منه البضاعة. استمر الانتظار لنحو ربع ساعة حتى خرج الموظف ووقع على فاتورة الاستلام، ليقفل السائق بعدها صندوق شاحنته التي يُفترض أنها مبرّدة ويشغل محركها وينطلق الى زبون آخر.
سؤال: لماذا يطفئ السائق محرك شاحنته ويقطع بالتالي التبريد عن البضاعة عند كل زبون يسلمه طلبيّته؟ وإذا أطفأ التبريد بمعدل ربع ساعة عند كل زبون، وكان لديه عشر زبائن على الأقل، فبأية جودة تصل البضاعة الى الزبائن الأخيرة؟
والأسوأ حصل عندما دخلت الى السوبرماركت من باب الفضول المهني، فوجدت صناديق الدجاج التي تسلمها الموظف في الخارج بينما كان يدخّن السجائر ويلهو مع زملائه، مركونة لأكثر من ساعة الى جانب البراد المخصص لها فيما لم يتم توضيبها بسرعة ووضعها في أماكنها المبرّدة.
في المقابل، وصلت شاحنة أخرى لإحدى شركات الألبان ومشتقاتها، فسلم السائق فورًا موظف السوبرماركت الفاتورة، ودخل بسرعة مع مساعده الى البراد المخصص لبضاعته ووضعها على الرفوف بالطريقة المناسبة وبالسرعة المطلوبة.
نموذجان متناقضان لتتبع سلسلة سلامة الغذاء يؤكدان على ضرورة الدقة الشديدة التي يجب أن تتمتع بها الجهات الرقابية الرسمية المكلفة بهذه المهمة حتى لا تظلم بريئًا أو تبرئ مخطئًا.
كما تجدر الإشارة الى ضرورة إخضاع برادات المحلات والسوبرماركت لفحوص عشوائية دورية للتأكد من محافظتها على درجة الحرارة المطلوبة، وخاصة في المحلات التي تبقي براداتها مفتوحة.
وفي الحلقة الأخيرة من السلسلة لا بد من توعية المستهلك الى ضرورة التنبّه لعدم إبقاء مشترياته المثلجة أو المبرّدة في السيارة لفترة طويلة حتى لا تتعرّض لتلف جزئي أو كلي.
في المحصلة، إذا أردنا الحصول على مواد استهلاكية مطابقة للمواصفات، لا بد للجهات الرقابية من تتبّع سلسلة الغذاء بشكل متكامل، بدءًا بالمواد الأولية المستخدمة في التصنيع الغذائي وصولًا الى البرادات التي تعرض هذه المنتجات في المحلات والسوبرماركت. كما لا بد لوزارة الصحة والوزارات والإدارات الأخرى المعنية بسلامة الغذاء، والهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء التي تم تعيين أعضائها، من إعادة الاعتبار لعبارة “غير مطابق للمواصفات” حتى يشعر المواطن بالاطمئنان للمنتجات التي تصل الى مائدة عائلته.
خاص – غير مطابق للمواصفات .







