خاص- إنهيار العقيدة

في أواخر القرن الماضي عاصرت فلاحًا ثمانينيًا في قريتنا كان يجمع الفتيان في منزله المتواضع خلال ليالي الشتاء حول موقد وإبريق شاي وما تيسّر من بطاطا مشوية وغيرها. كان الحديث كله خلال تلك الأمسيات يدور حول الأفكار اليسارية استنادًا الى مؤلفات ماركس ولينين وستالين وغيرهم من منظري المرحلة السوفياتية. في إحدى الليالي لم يعد أحد الشبان قادرًا على تحمّل الوضع فتوجّه الى الشيوعي العتيق بالقول: لقد سئمنا هذا الحديث المملّ يا رفيق، فالاتحاد السوفياتي تفكك وانتهى منذ سنوات في أواخر العام 1991 وأنت ما زلت متجهًا الى الحج والناس عائدون. ابتسم الفلاح العتيق، نفخ دخان ما تبقى من سيجارته التي كادت تحرق أصابعه وقال: الاتحاد السوفياتي انتهى في روسيا وجوارها ولكنه لم ينته عندي.

كلمات ذاك العجوز التي كانت في حينه محل تندّر الحاضرين ومن سمعوا بالقصة، أثبتت الوقائع بعد أكثر من ربع قرن كم كانت حقيقية وتعبّر عن واقع مرير كان يعيشه مع رفاقه وأبناء جيله، بدليل أن قدامى الشيوعيين في لبنان والعالم ممن درسوا وعاشوا في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية ما زالوا يحنّون الى ذلك الزمن الجميل بنظرهم، وينظرون الى الرئيس ميخائيل غورباتشوف على أنه مجرّد رجل سكّير خائن للقضية.

الحالة نفسها تنطبق عربيًا على الناصريين في مصر وخارجها الذين ما زالوا يرون الى اليوم في الرئيس جمال عبد الناصر الذي توفي في 28 أيلول 1970 قائدًا وزعيمًا للأمة بعد أكثر من نصف قرن على رحيله، وبالرغم من مسؤوليته عن هزيمة مصر في حرب 1967، وينظرون في المقابل الى الرئيس أنور السادات على أنه خائن وعميل بالرغم من تحقيقه الانتصار (النسبي) الأول على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973.

في السياق نفسه، وإن بدرجة أدنى، تندرج حالة مناصري حزب “البعث العربي الاشتراكي” بعد عقود من الصراع الحاد الذي بلغ حد الحرب بين البعثين السوري والعراقي، وبعد سنوات من سقوط حكم البعث بالقوة في العراق في نيسان من العام 2003 وما تلاه من إعدام للرئيس صدام حسين، ومن ثم سقوط حكم البعث في سوريا في كانون الأول من العام 2024 وفرار الرئيس بشار الأسد وعائلته الى روسيا.

الأمر نفسه ينطبق على مناصري الحزب “السوري القومي الاجتماعي” الذين يؤمنون بعقيدتهم بضرورة قيام ما يسمونه بسوريا الكبرى أو “بلاد الشام” التي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. هذه العقيدة، التي سقطت نهائيًا باحتلال العدو الإسرائيلي كامل فلسطين تقريبًا، وما تتعرض له الدولة السورية من تهديدات حقيقية بالتقسيم بعد انهيار نظام الأسد، ما زالت قائمة بنظرهم وقابلة للتطبيق.. ولو بعد حين.

في الخانة نفسها يندرج وضع “حزب الله” في لبنان بعد انهيار “محور الممانعة” بكامله في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في غزة وما تبعها من حروب في المنطقة. وقّع الحزب على هزيمته في اتفاقية وقف إطلاق النار مع إسرائيل، إلا أن الأمر لم ينته عند هذا الحد. واصلت إسرائيل حروبها على جبهاتها السبع حتى وصلت الى ضرب رأس المحور باستهداف المفاعلات النووية الإيرانية بالتعاون مع الولايات المتحدة. كما أبقت تل أبيب النظام الإيراني على لائحة أهدافها إذا لم يعلن هزيمته ويعود الى الداخل متخليًا عن مشاريعه التوسّعية عبر التخلي عن مبدأ تصدير الثورة.

أدرك “حزب الله” ان حالته العسكرية لم تعد مجدية، فانطلق في معركة الاحتفاظ بسلاحه على أمل المحافظة على مكتسباته الداخلية ليس إلا. لكن هذا السلاح الذي يشكل مشكلة أساسية للدولة اللبنانية، ومعها جميع القوى السيادية في الداخل بالاضافة الى المجتمعين العربي والدولي، لا يشكل في الحقيقة المشكلة الأساسية للداخل اللبناني في ظل استحالة استعماله ضد اسرائيل كما ضد أي طرف لبناني، بعدما أصبح سلاحًا غير شرعي ميليشيوي مسموح الانقضاض عليه في أي وقت، سواء من الجيش اللبناني أو من أي طرف خارجي، وهو ما تفعله اسرائيل في أي حال.

المشكلة الحقيقية لدى “حزب الله” وبيئته تكمن في انهيار العقيدة الدينية والسياسية والعسكرية التي بشّر بها على مدى نحو نصف قرن وربّى أجيالًا وفق مبادئها، حتى اكتشف أنها غير قابلة للحياة في بلد مثل لبنان. فهل ينجح الحزب في الامتحان الذي رسبت فيه الأحزاب اللبنانية المرتبطة عقائديًا بالخارج ويجنح الى تطوير عقيدته ولبننتها، أو أنه سيسير على الطريق نفسها التي سلكها غيره قبله، ويدفع مع مجتمعه ثمن التمسّك بمواقفه بالرغم من علمه المسبق بالنتائج؟

Follow
Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...