من بين الملفات البحرية الأكثر حساسية في شرق المتوسط، يبرز ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص كأحد الاختبارات الصعبة للديبلوماسية والسيادة القانونية اللبنانية. فبين مَن يروّج لمطالبة لبنان بمساحات إضافية غربًا، ومَن يحذر من مغبة تعديل المرسوم 6433/2011، يثبت التدقيق في الوقائع القانونية والخرائط الدولية والاجتهادات القضائية أن الموقف اللبناني الرسمي القائم على اعتماد خط الوسط وفق هذا المرسوم الذي صدر في العام 2011 أثناء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي والذي تمّ إيداعه لدى الأمم المتحدة منذ ذلك العام بعد تصحيحه لخط الوسط في اتفاقية 2007، هو الموقف الصحيح والأكثر اتساقًا مع القانون الدولي، بل والأكثر حفاظًا على المصالح اللبنانية الراهنة والمستقبلية.
منذ توقيع الاتفاق بين لبنان وقبرص في 17 كانون الثاني 2007 باعتماد خط الوسط بين النقطة 1 والنقطة 6، حرص لبنان على أن يتضمن النص بندًا صريحًا يتيح مراجعة أو تعديل النقاط الحدودية في ضوء الترسيمات اللاحقة مع دول الجوار. هذا البند أتى تجسيدًا لمرونة قانونية تحفظ حق لبنان دون أن تفتح الباب أمام تناقضات أو التزامات متضاربة. ومع أن الاتفاق لم يُبرم دستوريًا ولم يدخل حيّز التنفيذ، إلا أن لبنان ثبّت لاحقًا موقفه رسميًا من خلال المرسوم 6433 الصادر عام 2011، والذي حدّد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة من الجهات الثلاث، وأودعه لدى الأمم المتحدة في 14 تشرين الثاني من العام نفسه.
أهمية هذا المرسوم أنه رسّخ خط الوسط مع قبرص من النقطة 7 حتى النقطة 23، وهو خط اعتمدته قبرص نفسها في خرائطها الرسمية عند إطلاق دورة التراخيص الثانية في عام 2012، حيث عرضت البلوكين 3 و13 للتلزيم بطريقة مطابقة تمامًا للترسيم اللبناني. هذا التبني القبرصي لموقف لبنان جعل أي تعديل لاحق من قبل بيروت غير ممكن قانونًا استنادًا إلى مبدأ “الاستوبل” (Estoppel) الذي يمنع الدول من التراجع عن مواقف رسمية سبق أن بنت عليها دولة أخرى تصرفاتها ومشاريعها. وبالتالي، فإن أي محاولة لتعديل المرسوم اليوم أو المطالبة بمساحات إضافية غربًا ستكون مخالفة للعرف الدولي، وقد تُعرّض لبنان إلى مساءلات قانونية أو إلى خسارة ميدانية أكبر مما يتصور البعض.
في المقابل، تختلف الحالة القبرصية تمامًا عن الحالات الجنوبية والشمالية. ففي الجنوب، لم يكن العدو الإسرائيلي قد اعترف أصلًا بالخط 23 وقضم نحو 860 كلم مربعًا من المياه اللبنانية، ما أتاح للبنان قانونًا المطالبة بالخط 29 في المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق الترسيم عام 2022 واستعادة القسم الأكبر من حقوقه. أما في الشمال، فإن سوريا اعترضت رسميًا على الترسيم اللبناني عام 2014، ما أبقى الباب مفتوحًا أمام أي تفاوض مستقبلي جديد. لكن مع قبرص، فإن الأمور مختلفة: الترسيم قائم، والموقف معلن، والدولة المقابلة اعتمدته رسميًا في أنشطتها الاقتصادية، ما يجعل تعديله اليوم مستحيلًا قانونيًا وغير حكيم سياسيًا، خاصة أن الحكومة اللبنانية في العام 2011 اعتمدت في ترسيمها للحدود البحرية مع قبرص على تقرير للمكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) أكد أن خط الوسط المعتمد هو لصالح لبنان بعد استكماله للوصول إلى النقاط الثلاثية شمالًا وجنوبًا، وهذا ما تمّ اعتماده في الاتفاقية الحالية التي وافق عليها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة بتاريخ 23 تشرين الأول 2025.
أما من يدّعي أن للبنان حقًا إضافيًا غربًا بناءً على “عدم التناسب في أطوال السواحل”، فإن الاجتهاد الدولي الحديث يدحض هذه الحجة بالكامل. فمحكمة العدل الدولية، في سلسلة أحكامها منذ قضية ليبيا ومالطا عام 1985 مرورًا برومانيا وأوكرانيا عام 2009 وصولًا إلى الصومال وكينيا عام 2021، وضعت معيارًا واضحًا يقوم على أن التعديل لا يُعتمد إلا إذا وُجد فارق جوهري وملحوظ في أطوال السواحل، يتراوح عادة بين نسب 1 إلى 8 أو 1 إلى 9. وبما أن نسبة الفرق بين الساحلين اللبناني والقبرصي لا تتجاوز 1 إلى 1.88، بل إن الساحل القبرصي أطول فعليًا من الساحل اللبناني، فإن أي محاولة للاحتجاج بعدم التناسب تفقد قيمتها القانونية، وقد تنقلب ضد مصلحة لبنان لتمنح قبرص الحق بالمطالبة بمساحات إضافية شرقًا.
أما من يدّعي بأن الجزيرة تحصل على حدود لمنطقتها الاقتصادية الخالصة وجرفها القاري أقل من الأقاليم البرّية، فإن نص المادة 121 البند 2 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار – 1982 والتي انضم إليها لبنان وقبرص وهي ملزمة لكليهما تنص على أن للجزيرة حقًا في تلك الحدود مماثل للأقاليم البرية الأخرى. فمن لديه عكس ذلك، فهو مدعو ليبينه بنص واضح في اتفاقية دولية أو اجتهاد محدد صادر عن المحاكم الدولية، وليس الإشارة إلى وجود العديد من تلك الاجتهادات دون تحديدها أو أن تكون بغير صلة للوضع اللبناني – القبرصي. أما القول إن بعض الجزر قد حصلت على أقل من خط الوسط، فذلك يعود إلى ظروف خاصة لا علاقة لها بكونها جزيرة، كالوضع بين مالطا وليبيا حيث كان السبب هو الفرق الشاسع في أطوال الشواطئ بنسبة 1/8.
الأخطر من ذلك، أن فتح ملف التعديل قد يؤدي إلى خسارة لبنان مساحات فعلية تبلغ نحو 98 كلم مربعًا بسبب تصحيح تقني محتمل بين النقطة 1 والنقطة 3 في حال إعادة الحساب وفق خط الوسط الدقيق. كما أن التراجع عن المرسوم 6433 يضع اتفاق الترسيم مع إسرائيل عام 2022 في دائرة الخطر، إذ سيمنح تل أبيب ذريعة لإعادة فتح النقطة الثلاثية 23 والتملص من التزاماتها المسجلة لدى الأمم المتحدة.
وفي ظل الموقف التركي الداعي إلى إعادة النظر بالترسيم مع قبرص اليونانية بحجة ضرورة إشراك قبرص التركية، تتأكد صوابية المقاربة اللبنانية القائمة على احترام القانون الدولي وتجنب الدخول في نزاعات سياسية لا طائل منها. فتركيا نفسها رسّمت حدودها البحرية مع قبرص التركية من طرف واحد وأودعتها الأمم المتحدة، فيما وقعت مصر والكيان الإسرائيلي اتفاقياتهما مع قبرص اليونانية دون اعتراض تركي فعلي. وبالتالي، فإن الحجة التركية ذات طابع سياسي لا قانوني، ولا تمسّ بحق لبنان في إبرام اتفاقه السيادي مع قبرص المعترف بها دوليًا.
من كل ما تقدم، يتبيّن أن لبنان بات أمام فرصة لتثبيت موقعه كدولة تحترم التزاماتها الدولية وتبني مواقفها على قواعد القانون البحري لا على نزوات سياسية أو مزايدات داخلية. إن صوابية القرار اللبناني بالموافقة على إبرام اتفاقية الترسيم مع قبرص لا تكمن فقط في التزامه بالقانون الدولي، بل في كونه يعكس وعيًا سياديًا متقدمًا يوازن بين الحقوق الوطنية والمصالح الاستراتيجية ويجنب البلاد انزلاقات خطرة في منطقة تزدحم بالتوترات والنزاعات البحرية. بهذا المعنى، فإن ترسيم لبنان مع قبرص ليس تنازلًا، بل تثبيت للحق في إطار الشرعية الدولية، وترسيخ لمفهوم الدولة التي تعرف أين تبدأ حدودها وكيف تحميها.
ترسيم لبنان مع قبرص… قرار سيادي راسخ على أسس القانون الدولي .





