فجأةً، صعّد الأميركيون حراكهم تجاه لبنان: مورغان أورتاغوس ستتكفّل بنقل الرسائل أو الإنذارات وتغادر. بعدها يأتي توم برّاك بعد أسبوع، ويُفترض أن يتلقّى الأجوبة. وبين الزيارتين، تصدر لائحة عقوبات أميركية جديدة على شخصيات لبنانية. وهذا الضغط الديبلوماسي يلاقيه التصعيد العسكري الإسرائيلي الواضح. ما يعني أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل تتشاركان الخطى في هذه المرحلة.
يسود اعتقاد لدى عدد من الخبراء، بأنّ إسرائيل تريد التوصل إلى تسويات متشابهة على جبهاتها المفتوحة وحدودها كافة، من لبنان إلى سوريا فغزة والضفة الغربية، انطلاقاً من رؤيتها الموحّدة لمستقبل حدودها عموماً. وواضح أنّ هذه الرؤية تقوم على الأسس الآتية: خلق مناطق عازلة لصيقة بالحدود، تليها مناطق منزوعة السلاح، بضمان قوات متعددة الجنسيات، ولكن، إسرائيل وحدها تتحكّم بالقدرة على الرصد وضرب الأهداف في هذه المناطق.
هذه الرؤية بدأت إسرائيل بتطبيقها في غزة. ويعتقد كثيرون أنّ لبنان هو الجبهة الثانية التي يتركز الاهتمام على «معالجتها» باعتماد النموذج إياه.
وبناءً على هذا التصوّر، يواجه «حزب الله» أصعب معادلة وجودية منذ تأسيسه. وفي الواقع، هو يتحمل بصمت ضربات إسرائيل المتتالية، ويقدّم التضحيات اليومية من مقاتليه وكوادره في جنوب الليطاني وشماله، ولا يبادر إلى أي ردّ، لأنّه يدرك تماماً مخاطر فتح الجبهة مع إسرائيل في لحظة ضعفه الكبرى. فمن الممكن أن ترتد عليه المغامرة بنحوٍ قاتل. وتجربة الحرب في العام الفائت ما زالت ماثلة للعيان بكل كوارثها. وليس من مصلحة الحزب ارتكاب أخطاء في الميدان حالياً تكرّس ضعفه، فيما تقود الولايات المتحدة الأميركية ضغوطاً دولية متزايدة، ترمي في النهاية إلى تفكيكه عسكرياً، بل سياسياً.
ثمة من يشجع «الحزب» على الإفادة من التغطية الداخلية والعربية والدولية الحالية، ليسرع في التخلّي عن سلاحه ويلتقط الفرصة السانحة للدخول في المسار السياسي. وهذا تحديداً ما ترغب فيه غالبية القوى السياسية في الداخل اللبناني، ورئيسا الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام، في سياق رؤية تسعى إلى تقديم «طوق نجاة سياسي» لـ«الحزب»، يتيح له الاحتفاظ بحضوره كقوة سياسية وشعبية فاعلة، مقابل تخلّيه – ولو تدريجاً – عن السلاح. لكن «الحزب» يصرّ حتى الآن على البقاء بكل «هندامه المسلح»، انطلاقاً من اقتناعه بأنّ التخلّي عنه هو تخلٍ عن ورقة قوته، ما يضعه أمام تحدٍ عميق لقدرته على الصمود كقوة سياسية في الداخل أيضاً.
يبدو مستقبل لبنان رهن مسارين مترابطين:
1- مسار الحرب الإسرائيلية الواسعة، المغطاة دولياً، لنزع السلاح بالقوة في جنوب الليطاني، ثم في كل المناطق.
2- مسار الأمن الدولي والعربي، إذ يدور الحديث عن «قوات متعددة الجنسيات» ذات تركيبة فاعلة، خلافاً لـ«اليونيفيل» التي وُصفت بـ«الضعيفة» وتعمل تحت سقف القرار 1701. وستكلّف القوات المتعددة دوراً رديفاً ومساعداً للجيش اللبناني، وبضمان إدارة الواقع الأمني على كل حدود لبنان (جنوباً كما شرقاً وشمالاً على الأرجح)، وتطبيق قرار نزع السلاح وحصره بيد الدولة. وهذا السيناريو، في حال تفعيله، سيتيح فرض سيادة الدولة، لكن تحت مظلة الحماية والإدارة الدولية المباشرة.
المرحلة يصفها بعض الخبراء بالانتقالية، وفيها ستكون قوات «اليونيفيل» مجرد شاهد، قبل أن تغادر لبنان بعد سنة تقريباً. وخلال هذه المرحلة، سيشهد لبنان استحقاقات داخلية حاسمة، أبرزها الانتخابات النيابية، في الربيع أو الصيف المقبلين. وهذه الانتخابات لن تكون عادية، بل هي مؤشر دولي إلى توازنات القوى الجديدة، وتحديداً إلى الرصيد السياسي الذي سيتبقّى لـ«حزب الله» داخل مؤسسات الدولة. وفي اعتقاد البعض أنّ تراجع هذا الرصيد، يزيد من فرص إتمام التسوية المنشودة، أي نزع السلاح وفرض سلطة الدولة.
إذاً، ما يتمّ تحضيره للبنان هو تسوية دولية، من مرتكزاتها الأساسية نزع سلاح «حزب الله». وهذه التسوية ستضمنها آلية فاعلة متعددة الجنسيات، تحلّ محل «اليونيفيل». لكن تحقيق هذا التغيير الجذري لن يكون سهلاً، ما دام «الحزب» يرفض «الاستسلام»، بدعم من إيران. لكن البديل من ذلك لا يقلّ خطورة، لأنّه يعني تثبيت إسرائيل لـ«الستاتيكو» الحالي، القائم على عمليات استنزاف لـ«حزب الله»، من دون مراعاة الحدود الجغرافية أو السقف الزمني. وخلاله، سيجد الجيش اللبناني نفسه ضمن هامش مناورة ضيّق جداً. وهذا ما يكرّس الاضطراب اللبناني والأكلاف الباهظة والوجع الذي يميز غالباً مراحل التغيير، خصوصاً في الشرق الأوسط. وتجربة غزة ما زالت حية وتنبض.
الضغط الهائل الذي يُمارس على لبنان حالياً يُراد منه الانتقال من المراوحة إلى نزع السلاح، ولو بالقوة. وعلى الأرجح، سيتكفل الجيش بذلك جنوب الليطاني، لكن القوات الموعودة، المتعددة الجنسيات، ستتولّى استكمال المهمّة عندما تصل إلى لبنان بعد أكثر من سنة. وهذا يعني أنّ اكتمال التسويات في لبنان سينتظر وقتاً طويلاً. والتحدّي هو أن تبلغ التسوية خواتيمها في سلام، ولا يدفع لبنان ثمنها من كيانه، ما دام ميداناً مفتوحاً للنزاعات الطائفية والمذهبية والسياسية في الداخل، ومرآة للنزاعات والتعقيدات العميقة على امتداد الشرق الأوسط.
القوات المتعددة لنزع السلاح شمال الليطاني .





