«حزب الله» فوق الصخرة وفوق… الدولة. هكذا بدتْ المعادلةُ الصعبة التي أرساها الحزب أمس، بإصراره على إضاءة صخرة الروشة، الرمز السياحي والإرث التاريخي الذي يحفر في ذاكرة بيروت ووجدانها، بصورتيْ أمينيه العامين السابقين السيد حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في افتتاح فعاليات الذكرى الأولى لاغتيالهما من إسرائيل في 27 سبتمبر و3 اكتوبر 2024.
ووُضِع تحويل حزب الله صخرة الروشة «شاشة حزبية» للمرة الأولى، بين حدّيْن:
– الأول «التمرّد» على تعميم رئيس الحكومة نواف سلام بمنع استخدام «الأملاك العامة البرية والبحرية والأماكن الأثرية والسياحية والمعالم التي تحمل رمزية وطنية جامعة، قبل الاستحصال على التراخيص والأذونات اللازمة» ثم على قرار محافظ العاصمة بمنْح إذن بتنظيم الاحتفال ولكن من دون إضاءة الصخرة.
– والثاني الانقلابُ على تسويةٍ كان عُمل عليها بين سلام ورئيس البرلمان نبيه بري عشية الفعالية وعبّر عنها قرارُ المحافظ مع تَفاهُمٍ جرى الحديث عنه أيضاً على تحديد سقف المشاركة بـ500 شخص، وسط تقارير نقلتْ استياءَ بري من الارتدادِ على هذا السيناريو الذي أريد منه إخراجُ هذا «القطوع» من دائرة «المنتصر والمنكسر» إلى رِحاب «الجميع فائزون»، بمعنى أن «تنتصر» هيبة الدولة بتنفيذ تعميم سلام و«يربح» الحزب بإتمام النشاط وإن منقوصاً.
ولم تتوانَ أوساط واسعة الاطلاع عن إبداء خشية من ارتداداتٍ بالغة السلبية على «الدولة» في لبنان، منذ أن قَطَعَ الحزب الشك باليقين بعد الظهر ببيانٍ ثبّت فيه فاعليةَ «إضاءة صخرة الروشة بصورة السيدين»، مُعاكِساً المناخات التي شاعتْ بأنه سينحني أمام «عاصفة» الاعتراض الرسمي كما السياسي من خصومه على إطلاق فاعلياتِ ذكرى اغتيال نصر الله وصفي الدين من قلبِ بيروت التي اختار الحزب أن «يشهر» من على صخرتها الأشهر رَفْضَه ليس لتعميم سلام بل لمجملِ مسار سَحْبِ سلاحه.
وفي رأي هذه الأوساط أن «حزب الله» الذي حَشَدَ الآلافَ من مناصريه قبالة الروشة، التي «زنّرتْها» زوارقُ بحرية حَمَلَتْ أعلامَه وصور نصرالله وصفي الدين، قبل أن يُرفع عليها علمُ الحزب ثم تضاء بصورتيْ الأمينين العامين السابقين، تَعَمَّدَ كَسْرَ صورةِ الدولة التي يحاول ترميمها العهد الجديد وخصوصاً انطلاقاً من قرار حصر السلاح بيد الدولة الذي يعانده بالكامل، وأَعْلى البُعد العميق لمثل هذا المشهد على آراء أخرى وبعضها داخله كانت تحبّذ إبعاد هذه الفعالية عن «خط الانقسام» والتجاذب الداخلي وعن مخاطر استثارة احتكاكاتٍ سواء مع القوى العسكرية والأمنية أو مع مناصرين لخصومه، باعتبار أن ذلك سيَعْني «تلطيخَ» هذه المناسبة وإظهار مدى اتساع «الحدود» التي باتت تُقيّد الحزبَ في حضوره الداخلي.
ومنذ أن بدأ مناصرو الحزب، بالتوافد حاملين الأعلام (وبينها علم إيران) والرايات ومكبرات الصوت، وسط انتشار أمني كثيف في المنطقة، ساد ترقُّب ثقيل لِما إذا كانت الفاعلية سـ«تمرّ على خير»، وهل ستَفرض الدولةُ قرارها بمنع إضاءة الصخرة، أم يَفرض الحزبُ بوهج السلاح، الذي أطلقت الحكومةُ مسارَ سحْبه، خيارَه، وهل تتجاوز بيروت هذه الاختبار الصعب أم تتحرك «خطوط التماس» السياسية والطائفية والمذهبية التي ارتسمت منذ مرحلة 14 و8 مارس واغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي هوى في 14 فبراير 2005 باغتيالٍ دانتْ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أعضاء من حزب الله فيه.
ولم يكن عابراً أن يَحضر مسؤولُ وحدةِ الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا إضاءةَ الصخرة، على وقع تسريباتٍ كانت أشاعتْ أن ترتيباتٍ داخليةً حزبية أبعدتْه عن موقعه، وسط تَوَقُّفِ أوساطٍ مراقبة عند هتافاتٍ تخوينية أُطلقت ضدّ سلام الذي يتعرّض منذ إصدارِه «تعميم الروشة» لحملةٍ شرسةٍ من مناصرين للحزب، وزاد مَنسوبُها مع ما كُشف عن عدم منْح الإذن لطائرتين إيرانيتين (الأربعاء) تَحملان دبلوماسيين وراغبين في المشاركة بالذكرى، بالهبوط في مطار بيروت، في امتداد لقرارٍ لبناني سارٍ منذ أشهر بمنع الطيران الإيراني من دخول «بلاد الأرز» بعد تهديدات إسرائيلية بقصف المطار بحال النزول فيه.
إشاراتٍ أميركية متوازية
وفي موازاة «الإنزال الأصفر» على صخرةِ الروشة التي تَحَوَّلَتْ، وفق بعض الدوائر، مرآةً تَعكس اضطرارَ الحزب لخوضِ معركةٍ متعددة الاتجاه للفوز «بانتصارٍ معنوي» ولإقامة نشاطٍ يتمحور حول نصرالله ذاته، لم تَحجب تموّجاتُ «خميس الصخرة» الأنظارَ عن إشاراتٍ أميركية متوازية، أوحتْ بتراجُعٍ ولكن شكليّ، عن الإطار القاسي الذي عبّرَ من خلاله الموفدُ توماس براك عن مواقف صاعقة تجاه الحكومة اللبنانية وإدارتها «الكلامية» لملف سحْب سلاح «حزب الله» والتي اعتُبرت بمثابة «رياح ساخنة» سبّاقة لعودة اسرائيل الى الحرب مع الحزب بعد عام على انفجارها.
وكان بارزاً تأكيد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال الاجتماع الوزاري المشترَك بين مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة والذي ترأسه وزير خارجية الكويت عبدالله اليحيا، أن «في لبنان، هناك فرصة تُعَدّ تاريخية، والولايات المتحدة لاتزال ملتزمة جداً في هذا السياق، لضمان قيام دولة لبنانية قوية، تحترم تنوع مكوناتها، وتكون خالية من نفوذ إيران وحزب الله وغيرهم ممن قد يقوّضون الاستقرار في البلاد».
وأضاف أن «واشنطن تدعم قيام دولة قادرة على ممارسة سيادتها الكاملة، والاضطلاع بدورها في إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية المزمنة».
بدوره نشَرَ براك على صفحته على منصة «اكس» أن «الولايات المتحدة تواصل دَعْمَ مساعي لبنان لإعادة بناء دولته، وإيجاد السلام مع جيرانه، والمضي في مسعاه لتنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي وقّعه في نوفمبر 2024، بما في ذلك نزع سلاح حزب الله».
ورغم إعلاء هذين الموقفين دعْم لبنان، إلا أنهما يؤشران بحسب مصادر سياسية، إلى تمسُّك واشنطن الحازم بأن تمضي بيروت في قرار سَحْبِ سلاح «حزب الله» كمدخلٍ لتجنيبها أولاً أن تأخذ تل ابيب بيدها هذا الأمر عسكرياً، وثانياً لمدّ «بلاد الأرز» بأدوات النهوض المالي والاقتصادي.
وكان الرئيس جوزاف عون دعا من نيويورك، الإدارة الأميركية إلى مساعدة لبنان «في الضغط على إسرائيل من أجل وقف اعتداءاتها، والانسحاب من الأراضي التي تحتلها، كي تتمكن الحكومة اللبنانية من تأمين استكمال انتشار الجيش اللبناني في الجنوب حتى الحدود المعترف بها دولياً، ما يمكّنها من تنفيذ قرارها بحصر السلاح في يد القوات المسلحة اللبنانية»، معتبراً «أن استمرار احتلال اسرائيل لهذه النقاط يمنع عودة الاستقرار إلى الجنوب، ويعرقل خطة الجيش في ما خص حصرية السلاح التي رحّب مجلس الوزراء بمضمونها، وهي تشمل كل لبنان».
وقال إن المحادثات التي أجراها مع روبيو وعدد من معاونيه «كانت إيجابية، وخصوصاً لجهة استمرار الدعم الأميركي للجيش، ولجهود الدولة اللبنانية في تثبيت الاستقرار في البلاد».
سلام انتقد ما حصل في الروشة وطلب توقيف الفاعلين وإحالتهم إلى التحقيق
كتب رئيس الحكومة نواف سلام عبر «إكس»، أن «ما حصل في منطقة الروشة يشكل مخالفة صريحة لمضمون الموافقة المعطاة من قبل محافظ مدينة بيروت لمنظّمي التحرك الذي على أساسه صدر الإذن بالتجمع والذي نصّ بوضوح على عدم إنارة صخرة الروشة مطلقاً لا من البر ولا من البحر أو من الجو وعدم بث أي صور ضوئية عليها».
وأضاف: «وعليه اتصلت بوزراء الداخلية والعدل والدفاع وطلبت منهم اتخاذ الإجراءات المناسبة بما فيه توقيف الفاعلين وإحالتهم إلى التحقيق لينالوا جزاءهم إنفاذاً للقوانين المرعيّة الإجراء. وغني عن القول إن هذا يشكل انقلاباً على الالتزامات الصريحة للجهة المنظمة وداعميها ويعتبر سقطة جديدة لها تنعكس سلباً على مصداقيتها في التعاطي مع منطق الدولة ومؤسساتها».
وختم قائلا «هذا التصرف المستنكر لن يثنينا عن قرار إعادة بناء دولة القانون والمؤسسات بل يزيدنا إصراراً على تحقيق هذا الواجب الوطني».



