تدور المناقشات في لبنان حول بلورة موقف رسمي موحّد بشأن المفاوضات مع إسرائيل. سواء تمّت بشكل غير مباشر أم لا، يبقى الشكل تفصيلًا. أمّا المضمون فلا يمكن فصله عن المناخ العام الذي يسيطر على المنطقة، التي تندفع لا سيما بعد قمة شرم الشيخ، نحو التسويات الكبرى وتصفير الحروب.
في هذا الإطار، ترى أوساط سياسية مطّلعة أن مختلف القوى السياسية، وخصوصًا “أمل” و”حزب الله” يدركان أنه لا مفرّ من خيار التفاوض، لكنهما لا يزالان أسيرَي تجربة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. يعلم “الثنائي” رغم مكابرة “الحزب” تحديدًا، أن حجم التحوّلات المتسارعة يفرض اللحاق بمركبها. البقاء خارجه، يعني عمليًا الغربة عن العصر الإقليمي الجديد، وبالتالي سيؤدّي إلى إجهاض فرصة النجاة الأخيرة، وفتح الباب أمام تصعيد إسرائيلي كبير لا رادع له.
وفي ظلّ قناعة “الممانعة” بأن خيار التفاوض بات أمرًا لا مفرّ منه، تحاول تقزيم هذا المسار وحصره في إطار تقني محدود، على غرار اتفاق الترسيم البحري الذي وُقع في تشرين الأول 2022 بواسطة هوكستين. غير أن مسعى “الحزب” لاستعادة أدبيات ومفاهيم ما قبل “معركة التدمير الذاتي/حرب الإسناد”، أو استنساخ “هوكستين جديد”، أصبح خارج السياق لسببين مهمّين، لا يمكن لـ”الحزب” المكسور والمبتور القفز فوقهما:
أوّلًا، إن الزمن السياسي الراهن المنفتح على ترتيبات مستقبلية أوسع، تجاوز المقاربات الجزئية كمعالجة الحدود أو حتى تنفيذ القرار 1701 واتفاقات الهدنة التقليدية. من يتابع المواقف الأميركية الجازمة والمتصاعدة، والمعطوفة على “الاتفاق الجانبي الأميركي” و”ورقة توم برّاك”، يدرك تمامًا أن نزع السلاح ليس الهدف الأعلى. فالمطلوب هو انضمام لبنان إلى دائرة الشراكات والتفاهمات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية. كما أن الحلول الظرفية والهشة بطبيعتها، مرفوضة تمامًا من نتنياهو الذي يمقت التسويات الموقتة، ومن جانب إدارة دونالد ترامب. فالأخير الذي لامست سنينه الثمانين من العمر، والعائد إلى الساحة الدولية بديناميكية هائلة ورشيقة، هو أكثر استعجالًا لإطلاق قطار السلام الإقليمي، وإنهاء صداع الشرق الأوسط المزمن، وذلك قبل الانتخابات النصفية الأميركية في خريف 2026.
ثانيًا، إنّ الترسيم البرّي يختلف جذريًا عن البحري، تقنيًا وأمنيًا. فالحدود البحرية هي اقتصادية في جوهرها، أي تهدف لتنظيم الاستثمار في الثروات الطبيعية كالنفط والغاز والصيد البحري، وتقتصر مراقبتها على الزوارق والقطع البحرية والطائرات وغيرها من الأجهزة والتقنيات، وفق الخبير العسكري والسياسي، العميد المتقاعد جوني خلف.
أما الترسيم البري، فيتطلب وجودًا عسكريًا دائمًا على الأرض، نظرًا لتعقيداته الجغرافية والأمنية. فالحرب التي أطلقها “الحزب” وارتدّت إليه سحقًا وهزيمة، خلقت واقعًا جديدًا في الجنوب. إذ لم يعد النقاش اليوم محصورًا بـ”الخط الأزرق” أو مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر وغيرها من النقاط الخلافية. فإسرائيل فرضت منطقة أمنية بعمق 10 كلم، تضم خنادق ودُشَمًا، وتخضع لسيطرتها العسكرية والأمنية المباشرة. هذا المشهد المستجد لا يبدّده خطاب الممانعة، ولا تباطؤ الدولة، إنما يفرض عليها الدخول بمفاوضات مباشرة في مرحلة لاحقة، علمًا أن المفاوضات غير المباشرة كانت تحصل سابقًا في ما يعرف باجتماعات الناقورة، واليوم من خلال “الميكانيزم”.
ويوضح خلف أنّ النقاط الخمس أو الست المحتلّة بعد وقف إطلاق النار، لم تكن بهدف المراقبة، فإسرائيل التي تمتلك وسائل متطورة من مسيّرات وأجهزة وعمل استخباراتي ميداني، ليست بحاجة لتلال ترصد تحركات “الحزب”، إنما من أجل تعزيز المنطقة الأمنية المذكورة. وما يجدر أخذه بالاعتبار وبأهمية بالغة، هو أن إسرائيل، قد تساوم وتتنازل عن كل شيء ما عدا أمنها.
ومن التعقيدات الميدانية، تُواجه مهمة الجيش اللبناني في جنوب الليطاني عقبة أساسية، تتمثل في استمرار الوجود الإسرائيلي في أراضٍ ومواقع لبنانية، تمنع أي انتشار فعلي للجيش فيها. إذ تُصرّ إسرائيل على عدم الانسحاب من تلك المنطقة أو العودة إلى “الخط الأزرق” واستكمال معالجة النقاط الحدودية الشائكة، إلا بضمانات أمنية واضحة من الدولة اللبنانية، تبدأ بنزع سلاح “حزب الله” شمالًا وجنوبًا، ولا تنتهي باتفاق أمني وسياسي يُكرّس استقرار الحدود بشكل نهائي.
لذا، ما يجب أن يدركه “الحزب” والمسؤولون في الدولة، أن مسألة الترسيم البرّي ليست مجرد تفصيل تقني، بل هي جزء أساسي من مبادرة توم برّاك التي وافقت عليها الحكومة اللبنانية، باعتبارها جزءًا من مشروع سياسي متكامل، لا مجرّد إجراء تقني. وفي السياق عينه، لا يمكن فصل الترسيم البرّي مع إسرائيل عن ضرورة التفاهم مع سوريا أيضًا، لترسيم الحدود شمالًا وشرقًا.
استطرادًا، تجدر الإشارة إلى أن دمشق لم تُقدّم حتى اليوم أي خرائط رسمية تُثبت لبنانية مزارع شبعا. كما أن محاولات الحكومات اللبنانية المتعاقبة انتزاع اعتراف خطّي من النظام السابق (الأسد) كانت من دون نتيجة. واللافت أن “حزب الله” مارس في تلك الحقبة ضغوطًا كبيرة لإفشال الترسيم، مهدرًا آنذاك، فرصة لمعالجة الملف بهدوء عبر القنوات السياسية. أما اليوم، فيجد نفسه مضطرًا لمواجهة الاستحقاق نفسه، ولكن من موقع المهزوم والضعيف.
في الخلاصة، إن تحجيم قضية التفاوض وترسيم الحدود البرية هو انفصال عن الواقع، يشبه إلى حدّ ما الشركات الصناعية التي تخلّفت عن مواكبة الثورة الرقمية فاندثرت وأضحت في غياهب النسيان وداخل المستودعات العتيقة. لذا، إن التغاضي عن التحولات الإقليمية الكبرى التي باتت تركّز على الاستثمار في الاستقرار عبر السلام، قد تكلّف لبنان ثمنًا باهظًا.
“الحزب” عالق عند هوكستين… وترسيم السلام تجاوز الحدود .



