
في بلادٍ مزّقتها الانقسامات، حيث باتت الطوائف أسواراً تفصل بين القلوب، يطلّ جورج خباز كحارس للحلم الذي نكاد نفقده. هو ليس مجرد فنان، بل هو صوتٌ يعيد صياغة معنى الوطن، يجعلنا نراه ليس كمساحة جغرافية أو شعارات خاوية، بل كحالة شعورية نبنيها معاً، حجراً فوق حجر، من الحبّ والعيش المشترك.
على خشبة المسرح، يقف خباز ليحمل مرآة بيده، لا تعكس فقط وجوهنا، بل أرواحنا. في كل كلمة يقولها، تتردد أصداء العاطفة الصادقة، وكأنه يسأل: من نحن دون بعضنا؟ هل يكفي أن تكون مسيحياً أو مسلماً، سنياً أو شيعياً، لتصنع وطناً؟ أم أنّ الوطن يولد عندما نخلع عنا هذه الأقنعة، ونتعرّف على بعضنا كإنسان لإنسان؟
في إحدى مشاهده العميقة، يقول: الوطن مش خرطة على ورق، الوطن هو لما تخاف على جارك قد ما بتخاف على أخوك، ولما تفتح بابك للي دق، بلا ما تسأل شو دينو. هذه العبارة تحمل قوة الصورة البيانية؛ يجعلنا خباز نرى الوطن كبيت واحد، كلما انهارت جدرانه، سقط الجميع، وكلما حمى بعضهم بعضاً، ارتفعت الأسقف لتصل إلى السماء.
وفي لحظة أخرى من المسرح، يجسد خباز فكرة التعايش من خلال مقارنة بسيطة، ولكنها بليغة: متل ما القمح والزيتون ما بيسألوا عن دين التربة، نحنا ما لازم نسأل شو الطائفة، لأنو كلنا من نفس الأرض، وكلنا رح نرجع لها.
هنا يتحوّل الإنسان إلى جزء من الطبيعة، والطبيعة إلى رمز للوحدة، بلا انقسام.
جورج خباز لا يُلقي دروساً، ولا يعظ من برجٍ عالٍ. هو يقف بين الناس، يروي قصصهم، يضحك لضحكاتهم، ويبكي معهم. يقول في واحدة من عباراته التي تمزج بين الفكاهة والمرارة: ضحكتنا سلاحنا، مش لأنو ما عنا غيرها، بس لأنو الضحك بيكسر الحقد، وبيرجع القلب ينبض إنسانية. يجعلنا نتساءل: كيف يمكن للابتسامة أن تكون بداية، وللكلمة أن تكون جداراً يحمي الحلم من الانهيار؟
وفي لحظة مؤثرة، يخاطب خباز الجمهور وكأنه يخاطب كل مواطن في هذا البلد: إذا عتمت الدنيا علينا، خلينا نحنا نور بعض. وإذا انهار شي حيطة، ما نتركها، نجمع حجرا ونبنيها، لأنو الوطن ما بيعيش إلا إذا كنا كلنا حيطان لبعضنا. هنا يتحوّل الوطن إلى بناء مشترك، كل فرد فيه دعامة، وكل غياب فجوة تهدد السقف.
إنّ جورج خباز لا يقدم فقط فناً ممتعاً، بل يقدّم رسالة، مشروعاً وطنياً مغلفاً بالإنسانية. هو يعلّمنا أن الفن قادر على كسر القيود التي نُكبّل بها أنفسنا، وأنه يمكن للحبّ، للكلمة، وللحلم، أن تهزم الطائفية والانقسامات.
ختاماً، جورج خباز هو الوجه الذي يذكّرنا بأن الأوطان لا تبنى بالأسوار، بل بالقلوب المفتوحة. هو الصوت الذي يصرخ وسط الفوضى: نحن أقوى معاً.
هو الفنان الذي يجعلنا نؤمن بأنّ الخلاص ممكن، ليس عندما ننتظر التغيير، بل عندما نصبح نحن التغيير.